ناصر أبو عون
منذُ خمسةِ أصابعَ وثلاثةِ أقمارٍ اشتعلَ شِعْرُه شيبا، وابيضّتْ قَافيتُه منَ الحَربِ، صَمَّتْ قصيدتَه صَفَّاراتُ الإنذارِ، فَخَبأ أقلامَه تحتَ سَماءِ جِلدهِ، وابتَنى صَوْمَعةً مِن مُوسيقى واحتضنَ وِسَادةَ القِّصّة القصيرةِ ذاتَ طفُولةٍ، وحينمَا رأَى في مناماتهِ المُتنبيءَ يتوكأُ عَلى دِيوانِ العَربِ، كَتَبَ غَضَبَه قصيدةً.
وذَاتَ كابوسٍ (صَدّاميٍّ) أكلتْ دَاناتُ المَدافِعِ صَوتَه، وتَحَشْرَجَتْ أغَاني البراءةِ في حَنْجَرةِ (فُراتِهِ)، وانْحَسَرَ دِجْلَةُ عن بُحيرةٍ قانيةٍ مِن دَم، وغَرِقَتْ أحلامُه في مُستنقعِ (قَادسيّة صَدَّامٍ)، وهُنَاك على الحَدِّ الفَاصلِ بينَ طفولتهِ ويُفُوعَتهِ وَقَعَ (العِراقُ) - من أقْصَى حُدودِ (العَانةِ) الوديعةِ النائمةِ في حضْنِ (الشآمِ) البَهِي الأَبْهَى إلى أقْصَى الخَليجِ المُصطلِي بنارِ القبيلةِ والنَّفْطِ - فِي (عَشْريةٍ سَوداءَ)، فَرَعَى الطِّفلُ (وِسام العاني) قُطعانَ الغمَامَ، في سَماءٍ مُلبَّدةٍ بِدُخَان طائرات الـ 16، ومُثقلةٍ برائحةِ رَاجِماتِ الصّواريخِ، ومَضى يتسكعُ على أرصفةِ شوارعِ الكتابةِ حتى شَبَّ عُودُه وأَمسكَ القَلَمَ ذاتَ حُلْم، و هَشَّ على الأَحلامِ فصارتْ قوافيَ تؤوب كل ليلةٍ إلى مخدعِه، واستند إلى جذعِ نخلةٍ عراقيّة عازفًا على قَصبتهِ (أنشودة المطر) فلمّا انقشعَ الغَبشُ عنْ بَحرٍ لُجّي عظيمٍ منَ الشِّعْرِ كَنَسَتْه (عاصفةُ الصَّحراء)، واصْطَفَّ (كورسُ) الغِربانِ ليردد (كونشرتو) الانكسارِ.
ظلَّ وسامُ العَاني يفتِّشُ عنْ وجهِ أمّهِ/العراقِ، بين رمادِ الكلمات، ويَصطادُ الحُروفَ بِشِصِّ البلاغةِ على شاطيء الفراتِ، ويبذرُ المَعاني في أرضِ روحِه (اليَباب)، ويستروحُ العِطرَ من (شَقائقِ النعمان)، ويرسمُ الأفكارَ على شكلِ قِصةِ قصيرةٍ تارةً، وتارة أخرى في أسمالِ قَصيدةِ، يبحثُ عن هويتهِ، وعلى مشارف البدايات اقتنص (جائزة القصة القصيرة لجريدة صوت الطلبة).
وظل (وسام العاني) يُسَطِّر الكلماتِ داخلَ أروقةِ كليةِ الهندسةِ بالجامعةِ المُستنصريّة؛ فمرةً يجدّفُ في قاربٍ (الكوس) لِيقيمَ العِباراتِ صورًا شِعريّةٍ مُشذّبةً، ويُرصِّصُها في زوايا عمودِ الشعرِ، ومرةً يُصفِّفُ الكلماتِ مَجازًا في مِعمارِ القصيدةِ، وغالبا ما يصنعُ من (المَسْطرةِ) سفينةَ استكشافٍ ليقيسَ أطوالَ النَّغماتِ في بُحورِ المَعاني، وكثيرا ما يُرسُمُ خُطوطًا مستقيمةً كحُدودِ فاصلةٍ بينَ (السَّردِ) وبينَ (الشِّعر)، وفي أحايينَ عديدةٍ يَمتطي حِصانَ (الفرجار) لِيَصنعَ دوائرَ شِعريةً نواتُها القصيدةُ، وظَلُّ الفتى يُجدفُ عَكْسَ التَّيارِ في بُحيرةِ المجازاتِ، ويضيء مصابيح الاستعاراتِ، ويغزل من أصواتِ الناياتِ قَصائدَ تُقَطِّرُ الحُزنَ دمًا في قوارير مفضّضةٍ بدعاءِ أمّه حَتَّى تُوِّجَ بـ(جائزةِ عبدِ الرزاق عبد الواحد) للشعرِ العربيّ في باريس عام 2017 وفي عام 2019 يُصدِر ديوانه (كالبحرِ يمشي حافيا)، وفي 2021 يَخرجُ للنورِ ديوانه (ما لم تقله الأرض).
في قصائدِ وسامِ العَاني تطغَى الثِّيمةُ الإشاريّةُ، وتأخذُ أنماطُ التّواصلِ غيرِ الّلفظي مِساحةً واسعةً مِن مخطوطاتِ دواوينِه، وتملأُ لُغةُ الجَسدِ - ونعني بِهَا هُنا (الصورَ الحركيّةَ الصّادرةَ عن أعضاءِ الجسمِ - جِرارَ قصائدهِ.
تتفجّرُ في قصائد (العاني) ينابيعُ الإيماءاتِ اللاشعوريّةِ وهي بمثابةِ عَلاماتٍ مرئيّةٍ تكشِفُ ما يُخفيه مِنْ مَشاعرَ مَكبوتةٍ، وانفعالاتٍ بُركانيةٍ خَامدةِ؛ إنَّه (يمشي وينبتُ من أحزانهِ الشُّعرا)، و(كانَ المَدَى كفًّا تطيشُ مَنَاجِلِه)، (طِفْلٌ يجرُّ على البيَاضِ حُروفًا)،(يُلَمْلِمُ في كَفَّيهِ نِداءَ اللهِ منَ المِئذنةِ)،(سماءٌ من الدفءِ الشَّهيّ وقُبلةٌ عَلى طينهِ المُبتلِ تَنْسِكَبَانِ)، (مَوَّالُ مِشْيتِها يُدوزنُ خُطوةً)(تتسرَّبُ الأيامُ ذابلةً منْ جِلدِهِ والعُمرُ يندلِقُ).
لقد جمعَ (وسامُ العَاني) في طيّاتِ قَصائدِه منْ فنونِ البيانِ الحَرَكيَ، وصُنوفِ البلاغةِ الحَاكيةِ، وبراعةِ التَعبيرِ العَابرةِ للنّوعِ الأدبيّ، فلمْ يَسْتسلمْ لِسَطوةِ اللغةِ المَنطوقةِ، ولمْ يقتصرْ تعبيرُه على الألفاظِ المَسبوكةِ، ولمْ يعطّلْ تقنيةَ التصويرِ بالمعَاني في اللغةِ المُتَخيَّلة، ويوقِفْ تتابعَ الانزياحاتِ اللغويةِ غيرِ المَقصودة.
فمن أرادَ أنْ يغتسلَ مِنْ أدرانِ الحَدَاثةِ فَلْيَسْتَحِم في(فُرَاتِه)، ومَنْ يَرغَبْ في التَّطهرِ من خَطَايا الكتابةِ فليقرأْ ألواحَه الشعريّةَ المنقوشةَ بالخَطِ المِسْماريّ على أمواجِ (دجلةَ) الهَادئةِ، وليَدْرُسْ شِعرَه، ويتتبّعِ الحَرَكَاتِ الجِسميّةِ الخفيّةِ والظّاهرةِ في قَصائدِهِ، ويمشي على أَثرِ الإيحاءاتِ البيانيّةِ الحاكيةِ، ويسترشدْ بالإشاراتِ التعبيريّةِ الصادرةِ، منْ أعضاءِ الأجسامِ النَّابضةِ بالحياة.