دموع أب

 

د. عبدالله باحجاج

قصة ترددتُ كثيرًا في تناولها لحسابات شخصية، لكنني كسرت حالة التردد، لأسباب كثيرة، منها: إلحاح الكثير من الآباء على فتح قضية تدور حولها القصة دون أن يعلموا بها، وقضيتهم هي: عدم تقسيط رسوم المنح الجُزئية في الجامعات الخاصة، والاستعانة هنا بقصة دموع أبٍ لخدمة قضية الآباء، ففيها من المُؤثرات الدراماتيكية الحزينة والنتائج السلبية على منظومة التربية، التي يمكن أن تحرك صناع القرار، ويدفعوا بالجامعات الخاصة إلى الشراكة الحقيقية مع المجتمع في المرحلة الراهنة، من هنا، نقدم قصة دموع أب من عدة نواحٍ أبرزها:

1 - أنها مؤشر لمآلات مقبلة لأوضاع الكثير من الآباء، وكاشفة لمنزلقات اجتماعية وتربوية حادة مقبلة، فقصة الأب حالة فردية، ظهرت فوق السطح فجأة، وتعرضت لها بصورة تلقائية، وما لايمكن التعرض لها، كثيرة وكبيرة.

2 - العلو المتصاعد في عنان السماء لبعض القرارات الحكومية عن بيئتها الاجتماعية، فكيف يصدر قرار مركزي يمنع الجامعات الخاصة من تقسيط رسوم المنحة الجزئية رغم أنَّ هذا القرار يخص الجامعات ماليًا فقط؟ وأين هذا القرار من توجيهات عاهل البلاد- حفظه الله- بالاقتراب والتقرب من المواطنين، ومُراعاة ظروفهم وأحوالهم؟

هذا القرار يكشف مجددًا البون الشاسع، والذي يزداد في مسافاته بين بعض القرارات الوزارية والمجتمع، والتي تفقد المرحلة الوطنية الرضا الاجتماعي الذي هو أساس نجاحها- أي هذه المرحلة- فما الحكمة من القرار المركزي ورسوم المنح الجزئية تذهب لخزينة الجامعات، وليس لخزينة الدولة؟ وهنا تظهر المركزية بمثابة الوصي المالي على الجامعات الخاصة.

وقد حاول هذا الأب جاهدًا، تقسيط منحة ابنه الجزئية البالغة 450 ريالا تقريبًا، لكل فصل جامعي، لكنه قوبل بالقانون المركزي، استخدم كل وسائل الإقناع الموضوعية، لكن دون جدوى، وعندما استحضر مشهد ابنه دون تعليم جامعي، ومصائره المختلفة في ضوء التحديات التي تواجه شبابنا اليوم، ذرفت عيناه أمام موظفٍ في سن أحد أبنائه، وقال له بصوت حاد "إنني أخشى على ابني من الشارع إذا لم يُشغله تعليم جامعي"، مضيفا "أخشى عليه من القات والمُخدرات، أخشى عليه من السهر خارج منزله حتى الصباح، أخشى عليه من الذئاب البشرية من أن يقع في براثنها".. إلخ.

إنها صرخات أب مشروعة، ودموعه وراءها هموم كالجبال، تفهم من سياق جريانها اللاإرادي، ومن إصراره على إقناع الموظف بظروفه الخاصة، وظروف الواقع الموضوعية، ودموعه تصر أن تنساب من عينيه، ربما لا يشعر بها، وهذا حتمي؛ لأنه مشهد مُختل، يمس كبرياء الأبوة أمام حضرة ابنه، إنها دموع تزلزل منظومة الهيبة والقدوة الأبوية، وتضعفها في المحيطات الأسرية والاجتماعية، وتغرس في أجيالهم مسارات الضعف والتَّحرر والتَّمرد، وتضع قيماً أصيلة.. في مفاصل تاريخية جديدة، لدينا أحساس كبير وعميق بهذه القضية الأبوية الأسرية الاجتماعية، والوطنية كذلك، على اعتبار أنها ليست قضية فردية وإنما هي ظاهرة، ويمكن رصدها في المنح الجزئية، وفي الأعداد الكبيرة غير المقبولة في التعليم ما بعد دبلوم التعليم.

وقضية المنح الجزئية، هي فكرة يعتقد مبتدعوها، وهم الجانب الحكومي المختص، ومانحوها، وهم الجامعات الخاصة، على أنها خدمة للمجتمع من الجامعات الخاصة لمجموعة من الطلبة لم يحصلوا على قبول جامعي، تسقط عليهم نصف تكلفة الرسوم الجامعية للدبلوم الجامعي.. ولماذا هذه القسمة؟ بمعنى لماذا لا تكون هذه المنح كاملة للطلبة مجانًا من الجامعات من ضمن مسؤوليتها الاجتماعية في مرحلة الضرائب والتحولات المالية والاقتصادية الكبيرة التي تمر بها البلاد؟

ومطالبتي بالمنح المجانية، ليس من منظور المِنّة والإكرامية، وإنما كجزء قليل تقدمه هذه الجامعات نظير جمائل الوطن الكثيرة، التي لولاها لما تمكن أصحاب الجامعات الخاصة الكبيرة من إقامتها، ولا الانتفاع منها الآن، فالأرض مُنحت لها بالمجان، وكذلك كل واحدة منها منحت مبالغ مالية كبيرة من الدولة، لا ترد، كما إن سر بقائها وأرباحها، يعود للبعثات الحكومية السنوية لها، وهذه أكبر المسوغات الاجتماعية؛ بل الوطنية التي تجعلني أطالب الآن بالمجانية الكاملة للمنح الجزئية، فهي، ورغم أنها جزئية 50%- إلا أنها فوق مقدرة كل أب وولي أمر، إذا أخذنا بعين الاعتبار الظروف المالية الجديدة المُعقدة للأسر عامة.

وطبيعة الجدال الذي دار بين الأب وابنه في عين المكان، يكشف ذلك العجز الأسري، فأمام ذلك المشهد الدرامي للأب، تدخل الابن، قائلاً "إذا تمَّ تقسيط رسوم المنحة الجزئية، فمن أين سنُوفرها شهريًا؟" إذا كان سكنه في المحافظة التي يوجد بها مقر الجامعة، أما إذا كان الطالب من محافظة أخرى، فالتكاليف تبدو بين الصعوبة البالغة والاستحالة على أولياء أمور الطلبة، فهناك مصاريف إضافية على الآباء كالسكن والمواصلات والمعيشة.. إلخ، وهذا يزكي مطالبتي بالمجانية الكاملة للمنح الجزئية.

كما إن مطالبتي بهذه المجانية الكاملة، تنطلق من جوانب موضوعية كذلك، وهي تحتمها النقلة المعاصرة للشراكة بين الجامعات الخاصة والمجتمع؛ بل وزيادة أعداد مقاعدها، لاحتواء الجيل الجديد جامعيًا، عوضًا عن أن يكون مصيرهم الشارع، وينجذبون إلكترونيًا أو ميدانيًا مع أية مسارات مستجدة، وهذا نوع من الإدارة الذكية للمرحلة الوطنية، فزيادة الطاقات الاستيعابية للجامعات والكليات الحكومية والخاصة الآن مواتية بعد عودة الأنشطة الاقتصادية، والتطورات المالية الإيجابية بعد تحسن وضعنا مع جائحة كورونا.

لن يغادرني مشهد دموع الأب، فلها معانٍ كثيرة؛ إذ إنه إضافة لما سبق ذكره، هي تعبر عن أكثر درجات الألم المكبوت، ودلائله عدم قدرة الأب على حبسها أو حتى الإحساس بها، إنها دموع قاسية وموجعة ومؤلمة، وكل من اطلع على هذه القصة، لن أبالغ إذا ما قلت إن دموعهم ذرفت بالتبعية التأثيرية من جهة، ولأنَّ الألم نفسه مكبوت بدواخلنا.. لذلك يتولد الإحساس العميق بها، ولو تجسد قارئ هذا المقال الجوانب الدرامية لهذه القصة، بخلفياتها الاجتماعية وتعقيداتها المالية.. لن ينهي المقال إلا ودموعه اللاإرادية ستذرف كذلك.. لذلك، نتمنى أن تتم معالجتها بالطريقة الذكية سالفة الذكر، وليس تركها تتراكم وتتقاطع مع التداعيات.