معاول الهدم الأربعة

عائشة السريحية

عاشت الجزيرة العربية وما جاورها منذ آلاف السنين تحت وطأة صراع الممالك والحضارات، والغزو والاحتلال، وما بين هذا وذاك فقد شهدت غزوات داخلية بنيت على أساس الجوع والبحث عن الموارد، أو إثبات القوة والوجود، واستمر الوضع لقرون سواء كان السبب هو البحث عن موارد  أو لاعتبارات قبلية، أو دينية.

 وحين ظهر الإسلام وحد الرسالة وألغى الكثير من الاعتداءات غير المبررة وسير منظومة اجتماعية للتكافل والتعايش، وأسس قواعد وتشريعات تصف ما سبقه بجاهلية مذمومة ونجد ذلك في أحد أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام (إنك امرؤ فيك جاهلية).

 وكانت رواسب الماضي تطل برأسها بين حين وآخر، فتتمثل في تصرف أو رأي أو محاولة للخروج على القواعد المبنية بأسس واضحة وسليمة، فكان أوَّل معولٍ للهدمِ هو العودة للجاهلية بالتعصب والعنصرية، وقد ظهر هذا جلياً في ثلة المنافقين الذين سكنوا المدينة وكانوا يبكون على أطلال نفوذهم المسلوب على حدِّ قولهم، ورفضهم وجود الغريب القادم من مكة ومشاركته لهم الأرض وماعليها، وتجاهلهم المطلق لأهمية التغيير والرسالة السماوية العظيمة، فباتوا أشد خطرا وفتكا على الإسلام من الكفر الصريح.

واتضح ذلك جلياً في قول زعيمهم بعد عودة المسلمين من إحدى الغزوات: "أوقد فعلوها؟! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا؟! والله؛ ما أعدُّنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سَمِّن كلبك يأكلك! أما والله؛ لئن رجعنا إلى المدينة؛ ليُخرجن الأعزُ منها الأذل".

وكانت هذه أكثر النماذج تعصبا وعنصرية إبان ظهور الإسلام وفي حياة الرسول عليه الصلاة والسلام.

    التعصب والعنصرية ليست داءً أصاب الجزيرة العربية فقط، بل أصابت دولاً متقدمة ولعل الأمثلة عديدة ولكن لنقف وقفة صغيرة أمام النظام النازي بزعامة هتلر حيث كان مبنياً على عنصرية، وتمييز بحت، وتعصب أعمى لكل ماهو ألماني، بل تعدى ذلك ليشكل عنصرية من نوع جديد عنصرية بيولوجية تعدت معاداتهم للسامية إلى إقصاء ما أسموه العيب الوراثي للجنس البشري، حيث كانوا يعتبرون المرض البدني والعقلي تشوهاً يجب القضاء عليه وتنقية العرق الآري من كل الشوائب.

ونتيجة حتمية لهذا التوجه الأعمى خسرت ألمانيا الحرب، وخسر النظام النازي قوته، وخسر هتلر حياته، والنماذج كثيرة تبدأ منذ أن عرف الإنسان الحياة على وجه الأرض، وتعد العنصرية والتعصب معول الهدم الأول لأي مجتمع.

   المعول الثاني هو ما كان صريحا أيضاً في التاريخ العربي، ونسلط الضوء هنا على منطقتنا بحكم أنها الأقرب ولكي لا يطول المقال ولا تسعفنا الاختصارات، حيث كان يتم تقييم المرء عبر هويته ومنطقته، ولعل مقولة: (من أي العرب أنت؟) ما كانت إلا لتحديد الحكم الصادر عليك لتقييمك، فينظر إلى الشخص بنظرة عامة نحو منطقته، بل إن البعض يتشبث بالانتماء للمنطقة والجزء تاركا الكل، ويرى أن المسألة تتعدى كونها مشاعر تجاه التشابه والمشاعر، التي يحملها لأزقة منطقته وعلاماتها الجغرافية، ولهجتها الخاصة. فتحوله المناطقية والجهوية أسيراً لها، مكبلاً بقيدها، تسكنه فوبيا التقبل والتعايش، ولعل هذا الأمر منتشر بين الكائنات الحية في شريعة الغاب، فهي غريزة حيوانية حيث نجد بعض الحيوانات كأفراس النهر مثلا - بالرغم من كونها عاشبة- تتحول لمفترس فتاك محب للدماء لا يتوانى في قتل غريب دخل منطقته سواء كان يشكل تهديدا أم لا.

    ومن شأن هذه المناطقية والجهوية،  أن تقتل جمال التنوع والتغيير الإيجابي وتلاقح الأفكار والإبداع، ونتيجة لرفض الغريب عنها قد تنشأ بين أفراد المجموعة الواحدة أو المنطقة الواحدة أمراض بدنية جينية، وليس هذا وحسب  بل  تولد الكثير من الأمراض المجتمعية، بدءًا بالفساد ونهاية بالتناحر، حيث لا كلمة تعلو على القرابة والدم وأبناء المنطقة الواحدة، ومن هنا اشتهرت مقولة:( أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب).

أما المعول الثالث فهو يتمثل في التشدد الديني والمُغالاة، فيتمثل في أبشع صور للطائفية والمذهبية، ولعلها أخطر من المناطقية في بعض الأحيان، حيث ينصر ابن الطائفة أخيه على غيره حتى وإن كان ظالما، وإن انتشرت الطائفية في مجتمع ما، فلن يستطيع قانون إيقافها وستلتهم المجتمع بنار لا ينطفىء سعيرها، فعدم تقبل الآخر ومشاركته المواطنة والحياة المجتمعية بعيداً عن انتمائه الديني وعقيدته، يجعله مترصدا لغيره، متعصبا لمعتقده، مستعدا أن يموت لكي يثبت أنه على حق، وماسواه على باطل، وكذلك يفعل الطرف الآخر.

 وعلى مرِّ التاريخ تعاقبت الحروب التي اندلعت بسبب التعصب للمعتقدات الدينية والطائفية والمذهبية، قد التهمت لظى سعيرها ملايين البشر، بل إن أبناء الطائفة الواحدة قد تناحروا بسبب اختلافات بسيطة، وهذا من أقوى المعاول التي تهدم المجتمعات والأوطان.

المعول الأخير وهو الرضا والسكوت عن وجود المعاول الثلاثة، فدعمها ومساندتها لا يتمثل بالانتماء لها، ولكن بالسكوت وعدم التحرك ضدها، ووأدها منذ الميلاد، ويتكيف ذلك بالمسؤولية الفردية والذاتية في تربية الأبناء وتنشأتهم ضد هذه المعاول، نبذ أي تصرف في مكان عمل أو دراسة أو ملتقى أو تجمع، رفض كل أشكال العنصرية والتعصب والمناطقية والطائفية، والوقوف ضدها باعتبارها آفات تنشأ بسلاسة وهدوء، وتكبر شيئا فشيئا وتتغذى على الحقد والكراهية، والسكوت عنها وهي في مهدها يعد مشاركة صريحة في بنائها.

التاريخ أثبت بما لايدع مجالا للشك أن أي مجتمع وجدت فيه هذه المعاول الأربعة مصيره الدمار، فلا يمكن لمجتمع أن يظل سليماً ومعافى إلا إن نبذ كل هذه المعاول بكل أشكالها وأصنافها، فلا تكن شريكا أو مساندا أو داعما لخطر سرطان سيلتهم الجميع مهما ظننت أنك مسيطر على الوضع.