أحمد الرحبي
في الموقعِ الإلكترونيِّ لويكيبيديا، الموسوعة الحرة الشهيرة، تُعرَّف الأسطورة على أنَّها "قصة تقليدية ثابتة نسبيَّا"، قصة يمكن أن نصفها بأنها من الوزن الثقيل مصممة للوعي الجمعي "ذات موضوعات شمولية كبرى مثل أصول الأشياء والموت والعالم الآخر" يكون في هذه القصة "للإنسان دور مكمل لا رئيسي"، نقلا وتداولا على مستوى واسع، يتخطى المكان، وينتشر ويترسخ خلال توالي الزمان، نقل وتداول آمن فيه "الإنسان القديم بكل العوالم التي نقلتها له الأسطورة، مثل عالم الشياطين والآلهة، وكان الكفر بمضامينها يُعد كفرًا بكل القيم التي تشد الفرد إلى جماعته الثقافية".
ووفق ما سبق من التعريف للأسطورة، إذا هي قصة بلا مؤلف "لا مُؤلف لها؛ بل هي نتاج خيالٍ جمعيّ أي هي ظاهرة جمعية تُعبر عن تأملات الجماعة وحكمتها وخلاصة ثقافتها".
لكن عندما تسقط الأسطورة من شاهقٍ، وتهبط من ذلك المكان العالي الذي تسكنه في الوعي الجمعي، وتتردى في أسفل سافلين، إلى مجرد خبر مُتداول- وما أسرع تقادم الأخبار- عند ذلك من الطبيعي أن يؤدي، هذا السقوط والتردي، إلى "خبر بايت" بعد أقل من 3 أيام، على أكثر تقدير، من الطبيعي أن يؤدي إلى حالة يمكن وصفها بالهوس الانفعالي وردة فعل مُنفلتة في عواطفها، إزاء هذا السقوط للأسطورة الذي يجعلها "من الطبيعي أن تفقد كل مقوماتها كأسطورة، وتتحول إلى حكاية دنيوية وتنتمي إلى نوع آخر من الأنواع الأدبية الشبيهة بالأسطورة، مثل الحكاية الخرافية" وتنتج حالة الهوس الانفعالي وردة الفعل المنفلتة دائمًا عندما "ترتبط الأسطورة، وفق هذا التعريف أيضًا، بنظامٍ ديني مُعين (أو تفسير ديني معين) وتتشابك مع معتقداته وطقوسه المُؤسسة له".
قبل الأسبوع الماضي تمَّ تداول خبر بشكل واسع، أثار الكثير من اللغط، والأخذ والرد حوله في وسائل التواصل الاجتماعي، لغط وأخذ ورد حول الخبر، ما زال مستمرًا حتى كتابة هذه السطور، عن قيام الفريق العُماني لاستكشاف الكهوف، بالتعاون مع "هيئة المساحة الجيولوجية والثروات المعدنية، ومركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث اليمنية" بتوثيق "خسفيت فوجيت"، (أو ما عُرف أحياناً ببئر برهوت)، خلال زيارة قام بها لمُحافظة المهرة بالجمهورية اليمنية، ضمن عمله لدراسة الكهوف. ونشر الفريق إحداثيات موثقة بشكل دقيق، للحفرة أو البئر التي تقع في محافظة المهرة بالجهة الشرقية من الجمهورية اليمنية، على بعد 33 كم من الحدود العُمانية، مشيراً إلى أنَّ هذه البئر تنتمي لما يُعرف جيولوجيًا بحفر الإذابة التي تتكون في الصخور الجيرية السميكة (ما يعرف بتكوين الحبشة الذي ترسب في عصر الإيوسين).
كانت ردة الفعل على الخبر الذي أحال إحدى الأساطير الراسخة في الوعي الجمعي، إلى جذاذ، أو عرضها للاهتزاز على أقل تقدير، صادمة، من قبل شريحة واسعة في الوطن العربي، ومنفلتة بشكل عنيف، لم تبق ولم تذر، ردة الفعل هذه، في نفيها لصحة الخبر، وفي تسفيه النتيجة الميدانية (من الموقع) التي توصل إليها، الفريق العُماني لاستكشاف الكهوف بمُشاركة وإشراف من البروفيسور محمد الكندي وهو عالم جيولوجيا في الجامعة الألمانية للتكنولوجيا في عُمان "جيوتك".
ولم توفر ردة الفعل في تهكمها وفي شتائمها، والتهم التكفيرية، الصحف والقنوات الفضائية والمواقع التي نشرت وتداولت الخبر، عن النزول في بئر برهوت الذي جرى توثيقه لحظة بلحظة، من خلال التصوير الضوئي، والفيديو، والذي وصفه محمد الكندي بقوله: "دافعنا الشغف للقيام بذلك، وشعرنا بأنَّ هذا أمر سيكشف عن أعجوبة جديدة وجزء من التاريخ اليمني".
لقد اعتاد الكثير من الناس على مستوى الثقافة الشعبية في شبه الجزيرة العربية، وفي الوطن العربي، النظر إلى "بئر برهوت" بشيء من الخوف والرهبة، ويُجلونه إلى مستوى من القداسة النابعة من هذا الخوف والرهبة، كونه مكان ومعلم تناقل الكثيرون على مدى قرون، قصصاً تشير إلى وجود الجن فيه، وساد اعتقاد بأنَّ هذه الحفرة تشكل خطراً فوق الأرض، وقد تبتلع كل ما يقترب منها. كما أدى إلى تغذية الخوف والرعب المؤسطر حول هذا المكان، ما تم تداوله في بعض كتب التراث، بأنَّ أبغض بقعة في الأرض إلى الله عزَّ وجلَّ: وادي برهوت بحضرموت، فيه أرواح الكفار، ماؤها، أسود مُنتن، تأوي إليه أرواح الكفار، وأن أشرَّ بئر في الأرض: بئر بلهوت في برهوت، تجتمع فيه أرواح الكفار، كما أورد الأصمعي على سبيل المثال، عن برهوت في أحد كتبه، نقلاً عن رجل من حضرموت قال: إنا نجد من ناحية برهوت الرائحة المُنتنة الفظيعة جداً، فيأتينا بعد ذلك أن عظيماً من عظماء الكفار مات، فنرى أن تلك الرائحة منه.
إضافة إلى بعض الحكايات الخرافية التي تنتشر في كتب التراث عن وادي برهوت، والتي تحكي إحداها، بأن رجلاً بات ليلة بهذا الوادي؛ قال: فكنت أسمع طول الليل «يا دومة يا دومة» فذكرت ذلك لبعض أهل العلم فقال: إن الملك الموكل بأرواح الكفار اسمه دومة.
هذا الضخ الأسطوري على مدى قرون طويلة، جعل هذه الحفرة العميقة ترتبط بكثير من الأساطير والخرافات، التي انتشرت في وسائل الإعلام المختلفة، وهو ما عزز مستوى الرعب والخوف المرتبط بهذا المكان، الأمر الذي أدى إلى منع إمكانية تقبل دخول بئر برهوت بهذا الشكل الجريء، من قبل الفريق الجيولوجي العُماني الذي وثق معالمها، وأخضعها للفحص العلمي بأخذ قياسات دقيقة للمكان: العمق، والمساحة الداخلية للبئر، واصفًا بدقة معالم المكان، والحيوانات التي تعيش في وسطه، مع أخذ عينات من التربة والماء، لدراستها، مبدداً تلك الأساطير المرعبة عن بئر برهوت، ومحولاً البئر إلى مجرد خبر، عن مكان واقعي، يتداوله النَّاس، وسرعان ما يدخل طي النسيان.
بقي الإضافة، أنَّه مع عدم تقبل نتائج هذه المُغامرة الجريئة من قبل شريحة واسعة من المتفاعلين مع خبر النزول إلى "بئر برهوت"، بحجة أنَّ برهوت أو "وادي برهوت" الذي ورد عنه حديث نبوي شريف- وصف بأنَّه حديث ضعيف- يظل التساؤل قائماً بلا جواب: أين يقع البئر الحقيقي، أو الوادي المذكور في الحديث النبوي؟