تحديات الطبقة المتوسطة

يحيى الناعبي

كنت قد أشرتُ سريعًا في مقال سابق، إلى أهمية وجود الطبقة المتوسطة في المجتمع. في هذا المقال أحاول أن أتطرق إلى بعض التفاصيل المُختصرة حول العوامل التي غيبت هذه الطبقة.

في السنوات الأخيرة ليست بالقريبة، قد تكون مع مطلع الألفية الحالية والتي نشارف على بلوغ الربع الأول منها (بمقياس تطور الدول ونموها)، بدأت هذه الطبقة بالتآكل في معظم الدول العربية. أدت هذه الظاهرة إلى نشوء ظواهر سلبية كثيرة طالت جوانب المجتمع المختلفة الاقتصادية، الاجتماعية، الأخلاقية (سلوكيات الأفراد). وتم تهميش التفاعل المجتمعي فتضاءل دور المجتمع، وانعكس ذلك على دور الفرد لكونه يمثل حلقة أساسية لمكونات بناء الدولة.

مع بدايات النهضة في عُمان، كان للمجتمع دور كبير تمثّل في الحلم الذي يطمح إليه بعدما وجد الفرصة سانحة في استتباب الأمن في البلاد ودحر التناحر والصراعات القبلية التي عايشنا بقاياها في سلوك المجتمع. وسارع الجميع إلى المشاركة في وضع اللبنة الأساسية لتطوير مجتمعهم، فكان مما نتذكره أن الأهالي يساهمون في بناء المدارس بأنفسهم سواء بالتبرع بما يجودون أو باليد العاملة، وقامت تلك المدارس رغم هياكلها السعفية البسيطة لتصبح مشاعل العلم والمعرفة، وبدأت حقبة جديدة في تاريخ عمان الحاضر. فلم يكن الاعتماد الأول على مورد النفط بل كان عاملا مساعدا. بينما شكّل الإنسان العماني حضارة بلاده المعاصرة. وبالرغم من شح الموارد، كان المجتمع متآلفا مع الوضع ويمد يده لأفراده.

أثناء ذلك وفيما يبدو بدأت ظواهر تتجلى بشكل أكبر مع زيادة إيرادات الذهب الأسود وبدأت تتغلل في شرايين المجتمع لتدس بداخله عن قصد أو غير قصد التمايز الطبقي، بهدف القضاء على من تبقى من أولئك الذين يشككون في دور السياسة الحديثة ونواياها الحسنة بعد تجربة مرّة لما قبلها من السياسات. لكن وللأسف يبدو أن ذلك كان خطأً وتحول المجتمع من قبائلي إلى مجتمع "الشيوخ والأفراد"، وهنا انقسم المجتمع وتحول إلى الطبقية التي أدت إلى ما آلت إليه الأمور بين أفراد المجتمع، فهناك طبقة تحمل ثراء بالعطايا والهبات دون جهد ولا يحق لأي كان أن يسأل ذلك السؤال الضمني (من أين لك هذا؟)، وأخرى طبقة كادحة تخدم لقوت يومها الذي لم يعد يغطي نهارها فقط.

سيسيولوجيًا لا يوجد مبرر لمثل هذه التفرقة الاجتماعية، فالمجتمع نشأ من المربع صفر والجميع كان على قدر المساواة في الموارد، ولم تكن هناك من فوارق تذكر، بالمختصر المفيد لم تكن هناك فوارق نوعية لذلك المجتمع قبل النهضة. وأدى ذلك التباين في المعاملة إلى خلق الانحلال التام وبدأت التفرقة العلنية والتمايز الظاهري بين أفراده. وهذه السياسة لم تؤثر فقط على العوام؛ بل للأسف طالت النخب الدينية والثقافية والعلمية، والتي كان يعول عليها برمجة المجتمع الناشئ نحول الإصلاح والتوجيه البنّاء؛ لتأسيس مجتمع مترابط متين قائم على أسس متينة.

للأسف، أصبح نداء الخطيب ومقال الشاعر وعمود الصحفي وصاحب المعرفة ديباجة معلبة لا تعالج الواقع؛ بل هي وجهات نظر شخصية، فرضت على المجتمع وأوضاعه ولا تعكس الأقوال بالأفعال، لأن عين هذه النخبة نحو ذلك الترضي والهبات من المؤسسة الرسمية، فغابت الطبقة المتوسطة، وأصبح الجميع يفكر في النفاق العلني. لذلك لم يعد الأفراد يثقون فيمن يصفون أنفسهم بالنخبة أو قد ينعتهم المجاملون بذلك. هذا بدوره شكّل سلوك الاستنهاض عند أفراد المجتمع ضدّ الفكر البراجماتي، فالطبقة الناشئة أو جيل المعرفة لم يعد يركن إلى ما يُقال أو ينشر هنا وهناك في الوسائل المحلية المتواضعة في الطرح.

وعلى المؤسسة الرسمية أن تعي الدور الذي تلعبه الطبقة المتوسطة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، أفضل وأهم من ذلك الدور البسيط المتمثل في الهبات الإقطاعية لأفراد معينة لا يحملون أي دور أو أهمية في الكيان العام. وأن التوازن المجتمعي هو أفضل وسيلة في ربط العلاقة بين الفقر والثراء؟ وأن إعطاء الفرصة لتوسيع رقعة طبقتي الفقر والثراء تحول الانتماء والولاء من الوطن إلى الأفراد. لذلك على المؤسسة الرسمية أن تدرك خطر الفكر الواسع بين أفراد المجتمع في ظل غمامة الإحباط واليأس التي تحيط بالبعض منهم؛ فهناك آليات عديدة تساعد المؤسسة الرسمية على تضييق فجوة التفاضل اللامنطقي، يجب البحث عنها.