ناصر أبو عون
ليلة جاء إلى دُنيا الفانين شقت صرختُه الأولى قلب الليل، فقشعت عتمة السكون، في تاريخ متواز في الزمن والإحداثيات مقرونًا بسقوط دانات المدافع الهادرة، وقنابل الطائرات المتفجرة فوق القمم الشهباء في الجبل الأخضر، تفتحت عيناه في مسقط العامرة عام 1954 بعد أن بقي دهرا في عوالم الذر، ومتخلقًا من طين الأرض الطيبة، وكامنًا في رحم شريف ليخرج إلى الحياة من أصلاب، رجال عركوا الثقافة ورضعوا حليب التنوير، وحرثوا أرض الأدب، وساسُوا فلج البلاغة في مقيظ نزوى، وبذرُوا القوافي في "وادي الطائيين"، ونثرُوا الموسيقى في شعاب سمائل، واستنبتوا الشعر في مسقط؛ فترعرعت حديقةُ الفكر، وامتد فيئُها ليُظلل مساحات شاسعة من شبه الجزيرة، واستطالت أشجارُها وتشابكت أغصانُها، لتعرش دالية الإبداع فيأوي إليها عشاقُ الكلمة جيلًا بعد جيل، ومن ثُريات عناقيدها استضاء الشاب الشاعرُ سماء عيسى إبداعه من مشكاتين مُتوهجتين.
أما الأولى، فقد ألبسته بُردةً من نور اليقين، وأورثته حرفة القلم فخطَّ يراعُه قصائد صُوفية، تشتمُ من عبقها رائحة العدل المُتخلق من بشت الشيخ عيسى بن صالح الطائي قاضي قُضاة مسقط ومُؤرخ الرحلة البارونية (ت1359هـ/ 1940م في ربوع عُمان)، وأما المشكاةُ الأخرى فقد أورثته التنوع في إبداعه العابر للأجناس الأدبية، وقعت في حجره من الأديب المُتعدد الثقافات والاتجاهات؛ الموسوعي عبد الله الطائي.
كان الخروجُ الأولُ للفتى سماء عيسى المتمرد على شكلانية الشعر، ورؤاه وأفكاره وموضوعاته، وأضابيره المُهترئة إلى (دلمون/ البحرين) يتوكأ على عصا الشعر، ويهش بها على القصائد، عينه على مآرب أخرى غير التعلم، يترقبُ بزوغ فجر القصيدة الجديدة، فارا من سطوة المنظومة التقليدية، وكُلما دعاه سدنتها، وفتح له حُراسها الأبواب على مصراعيها للدخول إلى ساحتها جعل أصابعهُ في أُذنيه واستغشى ثيابهُ، وفر من (الشعر الغنائي) فرار المجذوم من العمود الخليلي؛ فـ"السعادة/ هي ما يتواطؤ معك/ ضد الروح/ فاهرب عنها/ إلى جبانة الأطفال/ لم يعد لدينا بيت نأوي إليه/ بعد أن أوصد آباؤنا أبواب قبورهم/ ورمتنا أمهاتنا للريح/ للريح الصفراء شقيقة الموتى". يقول عنه علي الشرقاوي: "سماء عيسى.. عروة الشعراء الشباب في الساحة العُمانية وحامل لواء الشعر المُغاير والمُختلف في المفردة والجملة والرؤية إلى العالم وذات الإنسان، يرسم خارطته الشعرية محاولاً إضاءة الطريق لمن يأتي بعده، إنه حكيم القصيدة العُمانية بامتياز".
أما الخروجُ الثاني فقد كان من البحرين بعد أن قضى وطره منها، وقبض على جمرة من موقد التنوير، وحمل مصباحه في ليل الخليج الدامس، وولى وجهه شطر القاهرة عاصمة المُعز، والمقهورة تحت سياط شعراء التفعيلة في ستينيات القرن العشرين يتقدمهم الجنوبي والمتمرد الأكبر؛ أمل دنقل، ويحملُ لواءهم محمد عفيفي مطر، ويسير على نهجهم فاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبوسنة، بين خشية عواقب التمرد تارةً، والتمرغ في حرير السلطة واستبرقها تارةً أخرى.
ولأنَّ الشاب العُماني ورث التمرد ومطبوعٌ عليه فقد نبذ الأشكال المتوارثة والمحتوى المكرور وأعرض بوجهه الإبداعي، ونأى بجانبه التنويري عن تلكُمُ المدرسة التي غاصت من أخمص قدميها حتى رأسها، في وحل الهزيمة وقصمت ظهرها قشةُ "النكسة" في يونيو الحزين فكانت له وقفة تأمل طويلة، راجع فيها رؤيته، وأعاد تشكيل وبناء وعيه القومي، غداة تقوضت أعمدةُ الوهم وسقطت عمارةُ الشعر الغنائي على رُؤوس سدنتها.
انطلق سماء عيسى من رؤية طُوباوية، وفلسفة صُوفية؛ واقفًا على أرض اليقين، تحدُوه الرغبةُ في إعادة بناء معمار القصيدة الحديثة، ورص و"طوبقة" مداميك حوائطها من طين الحقيقة، وهندسة مُوسيقاها من عناصر الطبيعة، ومُستقيًا مُفرداته من المشهدي واليومي، ونابذًا الإيقاع الخارجي، وهاجرًا التقفية والنبر المتعمد، ومُعطيًا ظهره للصور التقليدية، ومُفجرًا اللغة لتتشظى كائنات حيةً في سماء النصوص.
وفي مُنتصف ثمانينيات القرن العشرين يشد سماء عيسى الرحال في زيارة إلى (نيويورك- صيف 1987)، ويقف في حضرة "تمثال الحُرية" رافعًا راية التجديد ومُتمردًا على الأُطر والقوالب، والنواميس، والقصائد المُعلبة، والمدارس الأدبية مُسبقة الدفع، والأبنية الفكرية سابقة التجهيز ليصرُخ ونافخًا في "صُور" قيامة الشعر مُنذرًا بـ"فجيعة ما": "الخراب سُكنى العمق البشري الآفل/ الشموس إذ تشرق سوداء، كآبات النهاية/ لرجل يُحمل ميتًا في طرقات الفجيعة/ الزوال، الأسماء تبدأ لتنتهي/ الكلمات بصاق/ الألسن وجحوفها، مضغة الأفواه".
يعود سماء عيسى إلى مسقط مُحملًا بالنبوءات، ومُتدثرًا برسالة التجديد، ومُلتحفًا ببُردة الشعر و"مُتمصرًا" بالنقد.. عاد بعد أن أمات "طياح الصردة"، وأهال التراب على رُوح التجديد، وأجهز على فكرة "الخُروج" على "عمود القصيدة"، في صُدور الشعراء، وأخمد هدير الثورة على حُراس المُعجم القديم.
انبعث سماء عيسى في الأرض اليَبَاب فهشّم ما طالته عصاه، وكسر أصنام البلاغة القديمة، وصعد نخلة الشعر فاستنبت "شماريخها"، وهز "عراجينها" فاساقطت "رُطبُ الكلام"، وذاق حلاوتها جيلٌ جديدٌ كان يحبُو على حواف الأفلاج، ويصعدُ قمم الجبال باحثًا عن قبلة جديدة؛ فأخذ بأيديهم إلى النور، والتفوا حول نبوءته وتحلقوا في مجالسه؛ واستأنسوا برؤيته، وناصروه في بعثته؛ يقول الشاعر زاهر الغافري "أعتبر سماء عيسى هو المحرك الأول، ليس في كتابة قصيدة فقط، وإنما ريادة التجربة الشعرية الحديثة في عُمان. وقد نشر في أواخر الستينيات في مجلة "الحكمة" اليمنية سنة 1968، قصائد ونصوصًا تنتمي إلى الشعرية الجديدة، وسرعان ما نشر في أوائل السبعينيات نصوصاً تنتمي إلى ما صار يعرف بقصيدة النثر. إذن المسألة ليست مسألة قصيدة نثر، وإنما الوعي الجمالي الحديث برمته، معبراً عنه في ممارسة شعرية جديدة، من معالمها قصيدة النثر".
وفي عام 1974 وعلى مقاهي القاهرة التقى وجهان عُمانيان، تعانقت قصيدة "التفعيلة وقصيدة النثر"؛ حيث التقى الشاعر سعيد الصقلاوي وجهًا لوجه مع سماء عيسى "فاستوضح منهجه، واستشف رؤيته، وخبر أدواته ووسائله، وأيقن أن الفتى المتمرد ينطلق في قصيدته الجديدة من أرض صُلبة، وثقافة واسعة، ورغبة عارمة في التجديد، وإصرار على تقديم المغاير والمختلف والجديد؛ فأثنى على تجربته". وفي عام 1991، كتب قاسم حداد في عموده الصحفي الشهير "وقت للكتابة" عن تجربة سماء عيسى الشعرية فقال: "إن الجملة الصغيرة المكتنزة، المترفة بصريخ الروح، تعتمد صناعة المشهد، إنها صور تنهض من بلاغة المشهد الشعري. فالشاعر لا يعبأ بالتفاصيل إلا نادراً، لغته ليست جزئية، إنها في كلية المشهد".
وعودة إلى جيل السبعينيات القاهري، يلتقي سماء عيسى أكثر شعراء المرحلة حيوية وتمردًا وتجديدا إنه الشاعر المصري علي قنديل (1953- 1975) فأيقن أن "الشعرية الحديثة تقوم على إدراك أهمية الصراع في كل شيء: في العالم، وفي المجتمع، وفي الذات، إلا أنها تأخذ، في كل نوع، شكلاً مميزًا"، وتأكيدًا لريادة سماء عيسى لهذه المرحلة عُمانيا وحمله لواء التجديد، وتقدمه صفوف كتيبة "قصيدة النثر" رسولًا ومبشرًا ونذيرًا تفرد مجلة "إضاءة 77" في عددها رقم (13) دراسة للشاعر جمال القصاص يقرأ فيها أهم ثلاث تجارب عُمانية "متتالية زمانيًا" وهي: سماء عيسى، وسيف الرحبي، و زاهر الغافري.