استجلاء ما جهل من التاريخ

 

خالد بن سعد الشنفري

 

لم تمر منطقة بفترة تجهيل لموروثها التاريخي والتراثي خلال القرون القليلة الماضية، مثلما جهل تاريخ ظفار؛ رغم شواهد هذا التراث وأطلاله وعمقه التاريخي، الذي ظل ثابتًا وشامخًا على الأرض، رغم طول العهد بها وشدة الأنواء المناخية المعروفة التي تضرب المنطقة كل عدة أعوام، في أحيان كثيرة، وما حصل من استنزاف جهلًا أو عمدًا من أبنائها أحيانًا ومن جهات خارجية؛ سواء الثابت منه على الأرض، كأعمدة ومحاريب المساجد التاريخية القديمة وقطع أثرية ومخطوطات وكتب، فُقدت في أماكن مختلفة خارج البلد.

تتشابه منطقة المهرة في اليمن المجاور، مع ظفار في هذا الوضع مع الفارق. ولم نجد عدوًا لدودًا لما حصل للمنطقتين، رغم عمقهما الضارب في التاريخ، إلا الجهل! الأب الشرعي لمعظم- إذا لم يكن كل- الكوارث البشرية، إضافة إلى البيئة القبلية التي كانت تسود المنطقة والتي بطبيعتها تتغول عصبيتها العمياء (عصبية الدم) مع الجهل وتتضاءل مع العلم.

الإسلام رسالة وشريعة الله في الأرض، هو النور في حد ذاته، وهو رسالة "اقرأ"، ورسالة "القلم وما يسطرون"، و"اطلبوا العلم ولو في الصين"، و"من علمني حرفًا كنت له عبدا"، قد كرم الله به هاتين المنطقتين (المهرة وظفار) منذ بزوغ فجره (أي الدين)، وبدأ من عصر النبوءة، وتكفي شواهد على ذلك، قبر الصحابي الجليل زهير بن قرضم، وتابع الشافعي الفقيه محمد القلعي، وقبر وضريح صاحب مرباط في مدينة مرباط التاريخية، وفي قرية الرباط الدينية التاريخية بمنطقة القرض (جوار قصر الرباط حاليًا) التي أسسها الشيخ العلامة سعد المشيخي (تاج العارفين)، وحل محله بعد وفاته في التدريس الشيخ العلامة سالم بن سعد باقوير، الذي قُبر فيها وبُني له مسجد باسمه بها سنة 650 هجرية، وقد تم تسوير الضريح وترميمه وترميم المسجد الذي يقع داخل أسوار قصر الرباط على نفقة ديوان البلاط السلطاني عام 1975م، وقد قام هذا الشيخ الجليل بتربية وتدريس حفيد تاج العارفين محمد بن أبوبكر بن سعد تاج العارفين بعد وفاة والده محمد قبل مولده، والذي أصبح فيما بعد من المشهود لهم بالعلم والصلح والكرم وفي عصره تطورت الرباط، حتى بلغت شهرتها آفاق العالم الإسلامي ويعتبر مسجده الذي بناه سنة 580 هجرية من أقدم المساجد، وتوالت بعده أجيال من هذه الأسرة تاج العارفين المشيخي السير على نهجهم، واشتهر منهم عدد باسم الشيخ العفيف انتشروا من الرباط على رقعة واسعة بظفار ولازالت العديد من المساجد تحمل هذا الاسم موجودة إلى اليوم.

وأدى تناقص أعداد العلماء الربانيين بعد ذلك إلى تناقص العمل بالعلوم الشرعية وأصول الدين، حسبما كانت عليه في عهد هؤلاء السابقين، وهذه كبوات اضمحلال للعلوم تمر بها معظم المجتمعات الإسلامية، وتنهض عادة بعد حين من جديد، إلا أننا نلحظ ذلك، رغم ظهور عدد من العلماء الربانيين بعد ذلك من السادة الأشراف كآل عقيل بن عمران أبناء الشيخة عائشة إحدى حفيدات "تاج العارفين"، وعُرفوا بدورهم بالعلم والإصلاح والتدريس ومساجدهم موجودة الى الآن، أتى بعدهم بعض السادة الأشراف الذين عُرفوا بدورهم بالتدريس والإصلاح الديني مثل العالم الجليل السيد عبدالله بن علوي الحداد العلوي الحسيني الذي هاجر من اليمن إلى ظفار في القرن الثاني عشر الهجري، وكان مُصلحًا دينيًا واجتماعيًا، وتولى من بعده بعض من أبنائه وأحفاده، وتعرفهم كل ظفار، وقد دُفن بمقابر الحداد في منطقة الدهاريز، وله مسجدٌ كان عامرًا بالمصلين والمريدين، إضافة إلى غيرهم من مختلف الأسر والعائلات الظفارية، الذين لا يتسع المقام لذكرهم بالتفصيل، والأمر برمته يحتاج إلى بحث وجهد أشمل وأعمق ليوثق للتاريخ.

المجتمع الظفاري كان مجتمعًا قبليًا صرفًا، وبيئة خصبة تتيح للأعراف القبيلة، ومنها بواقي ترسبات الجاهلية التي كانت سائدة لمئات السنين قبل الإسلام في هذه المنطقة، وتبرز على السطح في ظل هذه الظروف.

وتوغلت الأعراف القبلية على حساب العلوم الشرعية وأصبحت أعرافها هي السائدة، والعرف عموما- عندما يتواتر- يصبح بمثابة القانون بين الناس، ومنها الأعراف القبلية بالطبع التي تسود في مجتمع قبلي ما تتحول أيضاً إلى قانون بينهم بالتواتر، وأبسط مثال للتدليل على قوة العرف القبلي الذي تجاوز حدود الشرع في ظفار ما يسمى "الدم والفرث" في ديات القتل، ويعتد فقهاء القانون في العصر الحديث (القانون الوضعي) بالعرف كمصدر من مصادر التشريع.

البعد الجغرافي أيضًا بين كل من هاتين المنطقتين وبين أقرب تجمع حضري لمحيطهما وصعوبة وسائل التواصل معه برًا لبُعد ووعورة الطرق وبحرًا لصعوبة ومحدودية ذلك؛ لوقوعهما على ساحل بحر العرب الذي لا يسمح هيجان أمواجه العاتية للسفن السائدة في تلك الحقبة من ركوب البحر طوال نصف العام من السنة تقريبًا، قبل وبعد موسم الخريف، فلا يمكنها الاقتراب منه بسلام.

وفي ظل هذا النشاط التجاري الضيق المحدود جدًا مع الخارج نتيجة لما تقدم وللظروف الاقتصادية السائدة- آنذاك عمومًا- أصبحت كلها بالتالي عوامل مهمة وسبب في تقوقع سكان هاتين المنطقتين كل منهما في عالمه الضيق المحدود، عدا التبادل التجاري البسيط فيما بينهم، فسادت النزاعات القبلية في أوساطهم وانحصر النشاط الاقتصادي في الزراعة اليدوية البسيطة والرعي والصيد من البحر للعيش منها.

وخلال الخمسين عامًا الماضية من عصر النهضة في عُمان، بدأ كثير من شباب ظفار المستنيرين في سبر أغوار تراثهم الجاثم أمام أعينهم لإزالة الغبش الذي علق به بما وقع بين أيديهم من تاريخ مكتوب ووثائق عنه، وما حصلوا عليه منها في الشتات في أكثر من جهة خارج السلطنة، فمنهم من ذهب إلى اليمن للبحث بين كتب جوامع صنعاء القديمة ومكتباتها، والتواصل مع الثقاة من المؤرخين من حضرموت وغيرها، ومنهم من اتجه لينبش بين مكتبات لندن وغيرها من المكتبات العربية العريقة، إضافة بالطبع إلى الجهد المقدر الذي قامت به الأجهزه الحكومية المختصة في التنقيب في أهم الآثار مثل: البليد وسمهرم وأوبار الشصر وغيرها.

على كل هذا، يُفترض اليوم أن تكون الانطلاقة المنظمة والمتواصلة في هذا السياق، ولابُد لها من تنظيم، ونرى أن أنسب الطرق لها تأسيس جمعية لذلك، وتوفير الدعم المادي والمعنوي لأي من الشباب المختصين والمهتمين للمواصلة والبحث لإزالة كل غبش خلفته السنون، ونعتقد أنه الخط والمسار الوحيد الذي عن طريقه سيجلى البريق، ويزيل ما علق من غبش بهذه الجوهرة ظفار، جوهرة التاج للسلطنة، ويزداد إشراقًا ولمعانًا مع السنين، وبذلك لن تبقى ظفار مزارًا للزائرين للارتواء من رذاذ الخريف وإخضرار الطبيعة؛ بل لارتواء الروح بعبق التاريخ في جانبيه التراثي بإطلالاته العديدة القائمة والديني بأضرحته ومقاماته ومزاراته الدينية الغنية. ولن نضطر بعدها للبحث خارج الصندوق عن تطوير السياحة في ظفار بفكرة تلفريك أو سواه ولدينا هذه الكنوز!

نتأمل اليوم كل الخير من مؤسسات وأجهزة مختصة متجددة كوزارة الثقافة والرياضة والشباب وعلى رأسها الوزير الشاب الواعد صاحب السُّمو السيد ذي يزن بن هيثم آل سعيد، والمستقبل سيكون أكثر إشراقًا بإذن الله تعالى في عهد سلطان التجديد جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله وأبقاه-.