حجفوف والبانيان

خالد بن سعد الشنفري

6 عقود من العمر انطوت، والسابع يستعد لطي طرف حصيرته، حياتنا كتاب مفتوح نبدأ صفحاته بيضاء وأول ما يدون به أسماؤنا ونتولى نحن بعد ذلك الخط على صفحاته ما نعيش ونمر به من تجارب في هذه الحياة، وهو أيضًا مرآة لماضينا ومادة نستشرف منها العبر لنُخطط للمستقبل، (لقد قيل قديمًا من ليس له ماضٍ ليس له حاضر.

صفحات نطويها ورقة تلي ورقة كما تطوى أوراق روزنامة التاريخ وتبقى لنا منها الذكريات، والذكريات صدى السنين الماضي، فما نحن عليه اليوم في حاضرنا لا ينفصل عن ماكنَّا عليه في الماضي، ليس امتدادا له فقط وإنما مقدمة لما بعده، ومن هذا الماضي نستشرف المستقبل متعظين من تجاربه.

نخطط ونرسم ونبني المستقبل باجترار الماضي كما يجتر الجمل (سفينة الصحراء) ماءه من أحشائه ليستمر في قطع الصحاري والقفار حيث يشح الماء وهذه من آيات الله في خلقه، فقد خلقت الإبل لنا آية (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت).

من حظي منِّا كعمانيين بعيش حياة العصرين، عصر النهضة وما قبلها نال الحُسنيين، وهذا ما لم ينله أبناؤنا من جيل ما بعد النهضة لذا بانت قلت مناعتهم أمام أول أزمة اقتصادية تمر بها بلادنا رغم أن الفرق بينها وبين ما كنَّا نعيشه قبل النهضة كالفرق بين السماء والأرض.

الذكريات عِبر، ومنها تولد الفكر ويتشكل المستقبل، وما نأمل أن تكون عليه حياتنا، وهكذا تجدد الحياة نفسها، والتغيير والتطور من سنن الله في أرضه.

عبادة الغني بمال يتصدَّق به وعبادة العالم بعلم يُعلمه لغيره ومن ليس له هذا أو ذاك يسرد ذكرياته مثلما أسردها الآن، لعل من يتعظ منها وكلا بما يسر له.

من ذكرياتي في عقد الستينات من القرن المنصرم وما أدراك ما الستينات في عُمان عامة وظفار خاصة، ذكرياتي مع "حجفوف والبطران"، حجفوف بقرتي والبطران حماري، كانا رفيقي طفولة ودرب تلك المرحلة.

البطران لمن لا يعرفه هو حماري الأشهب الجميل دابة ذلك العصر، وهو وإن لم يكن دابة سريعة كما يتمنى المرء لنفسه كالبيت المريح والمرأة المطيعة، إلا أنها كانت حياة فرضت علينا ومن فرضت عليه حياة مشاها. كان البطران في أواخر الستينات بالنسبة لي كالسيكل (دراجتي الهوائية) في بداية السبعينات، والموتر سيكل (دراجتي النارية) في مُنتصفها وسيارتي النيسان (أبو دحبة) في نهايتها.

لا زالت السيارة هي هي متسيدة مشهد الدواب إلى اليوم مع وصولنا الآن إلي بداية ثلاثينيات القرن الحالي، عدا ما أضيف إليها من تعديلات في (دحبتها) ووسائل وأدوات الرفاهية فيها.

لقد أعطيت البطران بعضًا مما يستحقه من سرد الذكريات كرفيق درب وحياة في تلك الحقبة من الزمن، أما حجفوف بقرتي التي شربت حليبها بعد أن تمَّ فطامي في عامين، وحين لم يكن (السيرلاك) و(إس 20) وكل أنواع حليب الأم البديل قد وصل إلينا. كانت حجفوف سيدة قطيع أبقارنا الصغير الذي لا يتجاوز عدده أصابع اليد في أحسن الأحوال.

رغم حداثة عهدي بالتملك، لصغر سني ومحدودية إدراكي، إلا أنَّ حب التملك قد غُرس فينا نحن بني البشر من لحظة الولادة، الفارق فقط في كيفية وحدود ممارستنا لهذه الملكية، وهذا شأن يتعلق بكل مرحلة من العمر والتمييز، وقد أمهلنا الشرع الحنيف فترة كافية تسمى فترة عدم التكليف، بعدها تصبح كل نفس بما كسبت رهينة، لاشيء عبثي في هذا الكون وخالقه المُدبر.

حجفوف باللغة الشحرية أو الجبالية الثرية بمفرداتها اللغوية تعني "ما مال أو انحنت مقدمته إلى الأمام"، وهو هنا بالنسبة لبقرتي يعني البقرة المنحنية قرونها إلى الخلف، وهكذا كانت حجفوف، ولهذا كنت لا أدمن حليبها فقط، بل ركوبها أيضًا، إنه الطمع البشري الذي يُولد معنا!

لم تتخلص حجفوف مني بادرار حليبها لي بل أصبحت امتطي ظهرها الذي لم يُخلق للركوب كالبطران الشديد الصبور، والذي بعد أن يسر لي تملكه، (وتلك كانت نقلة نوعية في الملكية)، وأعفيت حجفوف من مُهمة إرهاق ظهرها الهش بعد ضرعها المدرار.

في بداية السبعينات حصلت على أوَّل دراجة هوائية (السيكل) فاعفت بدورها البطران وأراحته مني، خصوصا أني كنت أوصف (كعكة ثخينة) أي سمين؛ تشبيهاً بخبزة القالب الظفارية الثخينة. كانت مهمة حجفوف الطبيعة تزويدي بالحليب لتغذيتي ليشتد عودي، لاشك أن الذين عاشوا طفولتهم في العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي وما بعدهما من أجيال، أطفال اللعب الحديثة المتعددة مثل "البلاي ستايشن والآيباد والهاتف الذكي"، سيحسدونني على حجفوف والبطران لأنَّ في عشرتهما واللعب معهما كانت الطبيعة والفطرة التي فطرنا الله عليها وفيها طمأنينة وراحة البال والتي ينبغي أن يعيشها من هو بهذا العمر من حياته، عوضا عما يعيشونه اليوم وفيه السم في الدسم.

تناغم عجيب نشأ بيني وبين حجفوف أولا والبطران بعد ذلك جعلني لازلت أتذكرهما إلى اليوم وأعيش معهما أجمل الذكريات.

لقد أشبعت البطران وصفاً وتوصيفًا في كتاباتي ومقالاتي التي أنوي بإذن الله تجميعها قريباً في كتاب بدل هذا الشتات في وسائل التواصل والصحف.

كانت حجفوف لاتقل وفاءً عن البطران بعد ذلك، كان هدؤها وسكينتها اللتان تتميز بهما أبقار صلالة عموما، إلا إذا استفزت أو توجست منك شرًا، فتتحول عكس ذلك، كل تلك الصفات شجعتني طفلا وبغير إدراك مني لركوب ظهرها، كانت بمجرد إحساسها أنني أحاول امتطاءها تظل بمنتهى السكون والهدوء؛ بل توطي من رأسها لكي أتعلق على رقبتها ممسكا بقرونها المنحنية إلى الخلف، وعندما تشعر باستقراري على رقبتها ترفعها تدريجياً لتتيح لي الزحف إلى الخلف والاستقرار على ظهرها.

ما لا يمكنني نسيانه، أنه إذا لم تنجح محاولاتي في التسلق وسقطت على الأرض وهذا ما يحدث غالبًا، كانت تدير وجهها ناحيتي، وتحدق فييَّ بعينيها الواسعتين ولا أغالي إذا قلت إني أكاد أرى الدموع تنهار من عينيها.

لي زميل في نفس مرحلتي العمرية كان يسكن بحارة النبات الملاصقة لقصر الحصن بصلالة حيث تقيم عوائل تجار البانيان الهنود بالقرب من دكاكينهم بسوق الحص. أخبرني زميلي مؤخرًا بأنه كان لديهم بقرة في نفس تلك الفترة، اسمها (رحينت) وهذا أيضًا اسم شحري جبالي ويعني الطيبة أو الرحيمة (إن إطلاق سكان صلالة وجبالها أسماء على أبقارهم دليل على مدى تعلقهم بها).

كانت رحينت بدورها على قدر من الذكاء الفطري بحيث كانت تعود لوحدها مساءً من المزرعة مجتازة (مقاييف) مابين المزارع والطرقات المتعرجة بين المنازل لتصل إلى البيت يوميا. إحدى عائلات التجار البانيان المجاورين لهم، كانوا يطلبون استعارت رحينت أحياناً إلى بيتهم ولا يعلمون هم أنفسهم سبباً لذلك، وكانت رحينت تعود إليهم بعد كل زيارة محملة بالهدايا على ظهرها من أقمشة ثمينة قلما كانوا هم أنفسهم يستطيعون اقتناءها، لاشك أن البانيان قد ارتأوا في رحينت مثالية طاغية (رب مثالي)، جعلني ذلك اتحسر أنهم لم يعرفوا حجفوف وطلبوا استعارتها مني، لتنال حقها من التكريم الذي لم نوفره نحن لها.

لم تكن حجفوف تدر حليباً بكمية الأبقار الأسترالية التي توجد بمزارعنا ومصانع ألباننا في الوقت الحالي، لكنه كان ألذ طعماً ونكهة ولازلت اشتم نكهته المميزة إلى اليوم وقد ترعرعنا وكبرنا عليه.

كان البطران أيضاً يدر عليّ دخلا بتأجيره للصيادين لتحميل أسماكهم من ريسوت إلى صلالة في فصل الخريف ويعود ظهر كل يوم إلي البيت محملاً بداخل سرجه (السواطر) سمك (خصار) بيتنا اليومي، هدية من الصياد الذي استأجره لذلك اليوم.

بذكريات حجفوف والبطران تطمئن نفسي اليوم وفي هذا العام 2021، بكل إرهاصاته المتتالية علينا صحياً واقتصادياً ونفسيا، بأن من سخر لنا في تلك المرحلة أمثال حجفوف والبطران حين كنَّا لا نمتلك 10% مما نمتلكه اليوم، لقادر على أن يُدبر أمرنا، فلماذا القلق إذن؟!

أمرنا الله بالطاعة والعبادة ووعدنا بالرزق.