النقد وأهميته

 

يحيى الناعبي

 

في العام 1849 أسست هاريت توبمان Harriet Tubman)) جمعية سرية لتحرير العبيد في الولايات المُتحدة الأمريكية، وقد تمكنت من تحرير بين حوالي 700 إلى 1000 من العبيد خلال مسيرتها في النضال الإنساني، وعندما سُئلت هذه السيدة عن الصعوبة التي واجهتها لإنقاذ العبيد؟ أجابت عن الكثير من الصعوبات لكن أهمها هو: كيف تقنع العبد أنه ليس عبدًا!

إنَّ التمييز العنصري ليس محصورًا في اللون والعرق فقط. لكن الأمثلة تضرب حولهما لأنهما النواة الأولى في التمييز العنصري على مدار حياة البشر. بينما هناك الآلاف من النماذج التي تعبّر عن التمييز وعدم المساواة والفوقية والدونية في حياتنا المعاصرة (المنزل، العمل، والمجتمع) وخصوصا في دول العالم الثالث، البيئة الخصبة للتطرف وممارسة التمييز.  

ماذا يعني أن تكون مسؤولًا أو كاتبًا أو صاحب فكر ولا تتقبل النقد في فكرك وعملك؟! ألا يعتبر ذلك تطرفًا وعنصرية. لقد تجاوز العلم الحديث ووسائل المعرفة والاطلاع الرؤية الفردية الأحادية في تنظيم سير الحياة. وأن المعرفة وحدها لا تكفي دون تجربة نقدية وأن كليهما غير كافيين دون ممارسة على أرض الواقع، وبالممارسة تتكشّف أمور كثيرة ساعدت الإنسان على التطور والنمو معرفيًا وفكريًا وعمليًا.

هناك من يدّعي أن ما وصلت إليه البشرية الآن هو حالة من الانحطاط لأنها لم تتفق مع رؤيته الأحادية أو أنها تختلف مع سياسته ومصالحه الخاصة، حتى وإن ادعى أنها مصلحة للجميع من منظوره الفردي. لذلك فإنَّ حالة المخاض التي تمر بها الشعوب هي نتاج لذلك التفرد الفوقي للرأي المتسلط، الذكوري، الأبوي، المادي، وقسّ عليه ما شئت.

لقد نجحت المجتمعات التقدمية والتي تحتضنها مؤسسات رسمية ديموقراطية في خلق تسوية مع الظواهر البشرية عبر الاستفتاء الشعبي وأصبغت عليه الصيغ القانونية التي تحمي جميع الأطراف.

أما فيما يتعلق بالمؤسسات الرسمية فقد وضعت تحت رقابة القانون وجعلت من الإعلام وسيطا بين سلوك الحكومة ورأي الشعوب. بالتالي فإن الدور النقدي القائم على الشفافية أنقذ الحكومات من الانهيار والشعوب من الانجرار نحو التطرف والانزلاق في دروب سحيقة من الفوضى، بسبب اليأس والإحباط الناتج عن التمييز والعنصرية والفوقية التي تمارسها السلطة.

إن الرهان القائم على التسلّط والقوة هو رهان فاشل بكل المقاييس، وهو الذي استنزف الحكومات قدرتها على صنع كيانات صلبة لتقدم شعوبها. بالمقابل أصبغ على الشعوب هشاشة فكرية واختلالا في تكريس اللحمة الوطنية والتماسك المجتمعي، سببه غياب التعددية الفكرية. إن الفكرة لم تُبنَ إلا لتقابلها فكرة أخرى مُضادة ومنهما تستنتج الخلاصة التي تكون محل نقد أيضًا مع التطور الزمني والمكاني.

على سبيل المثال: أن يعيش الفرد ازدواجية الحاضر بسلطة الماضي العقائدية والفكرية أو العكس فهذا يؤدي إلى اختلال في المفاهيم وغياب المحددات والضوابط التي يجب أن توازي فكره. بمعنى آخر، عندما يحدد الإنسان أن يعيش حياة عصرية بكل مقاييسها ومقتنع بها تمام الاقتناع، حينها يخلق من رحم هذا الاقتناع ضوابط تحكم حياته العصرية. لكن، أن تعيش الحياة العصرية بالفكر الرجعي فهذا يخلق خللا كبيرا في استيعاب المنظومة كاملة، وينتج عنه تغييب في الهوية. لأنَّ الفكر مُقيد بمعايير تتوافق ومرحلته الزمانية والمكانية. وكل فكر قابل للتغيير والتعديل ما لم يكن النص القرآني.

كذلك المُؤسسات الرسمية؛ حيث لا أحد ينكر دورها ضمنيًا في التطوير والتنمية، لكن أن يتمثل هذا الدور بجانب أحادي فقط وطرف واحد تمثله كل مُؤسسة دون أن يكون للمؤسسات الأخرى وأصحاب المصلحة الآخرين (مواطنين والقطاع الخاص)، أية دور، فمآله التخبط والفشل.

لذلك على المؤسسة الرسمية أن تغيّر من استراتيجيتها المتمثلة في التفرد بالقرارات وعليها أن تستمع لرأي الآخر المكوّن من المجالس البرلمانية وآراء المختصين. إذ سيُساعدها ذلك في التخفيف من عبء تحمل المسؤولية أمام القانون وأيضًا المشاركة وكسب رأي الخبراء والمختصين خارج المؤسسة الرسمية. والحديث هنا حول المؤسسات الخدمية التي تستهدف مصلحة النَّاس وحياتهم المعيشية.

إنَّ تجربة جائحة "كوفيد-19" أظهرت هشاشة وضعف المؤسسة الرسمية، وتحولها المتسارع بشدة- وربما غير المدروس- نحو فرض الضرائب، وبالتالي آن الأوان ومن الضروري أن يتغير سير العملية الإدارية في المؤسسات، ولا يجب أن ينظر إلى النقد على أنه عامل سلبي؛ بل آلية لتصحيح الأوضاع وللتغيير الإيجابي.