أ.د. حيدر أحمد اللواتي
كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
يعد التفكير الناقد قوام التربية الحديثة، وقد أكدت الكثير من الدراسات العلمية على أهميته وأنه أحد أهم المهارات التي يجب أن تتحلى بها الأجيال الحالية والقادمة، ولربما يكون أحد أسباب أهمية هذا النوع من التفكير هو الحريات الكبيرة التي غدت متاحة للجميع؛ لطرح أفكارهم ورؤاهم المختلفة عبر القنوات المختلفة، ولذا فإن تنمية هذا النوع من التفكير يُساهم وبشكل كبير على قدرة المرء على تقييم الكم الهائل من الأفكار المطروحة بناء على أسس علمية معينة من خلال التحليل القائم على السؤال، والبحث عن العلل ومعرفة الأسباب، كما أن المنهج الذي يعتمد عليه التفكير الناقد هو المنهج العلمي القائم على التجربة، بل إن التفكير الناقد في صورته الغربية يحصر المنهج العلمي بالتجربة.
إن تنمية مهارة التفكير الناقد، لا تتم من خلال معلومات تُغذى بها ذاكرة الإنسان، بل هي مهارة فكرية وهندسة لدماغ الإنسان يفكر من خلالها بطريقة معينة، ويرى العالم من زاوية نقدية ويراجع الأفكار التي نشأ وترعرع عليها ويكثر الشك فيها؛ لأنه أدرك أنه لم يخضعها للنقد والتمحيص سابقا، بل أخذها وسلم بها دون وعي وتفكير، ولذا لا يرى من أن يخضعها لمشرط التحليل الناقد، ومن هنا فمن المهم أن نُدرك أن مهارة التفكير الناقد، وطرق معالجة التحديات ليست فعلا خارجيا صرفا، بل تتحول مع الممارسة المستمرة إلى وصلات عصبية محفورة في دماغ الإنسان، تُسيطر على تفكيره في كل زاوية من زوايا حياته، وتُثير ألف سؤال واستفهام في ذهنه على سلوكه وسلوك مجتمعه وعلى عاداته وتقاليده التي ورثها، بل وحتى على شعائره الدينية وأحكامه الفقهية.
إن التطور الحاصل في دراسات الدماغ تُشير إلى أن الأفكار ليست مجردات فحسب؛ بل لها أثر بالغ في تشكيل الدماغ وصياغته؛ إذ إنها توجه الدماغ للتفكير بطريقة معينة وأسلوبا مميزا، ومن هنا فأن التفكير الناقد مع مرور الزمن يصبح محفورًا في عقول أبناءنا وسيكون أشد قوة في الأجيال اللاحقة.
لكن سيطرت هذا النوع من التفكير المبني على التحليل العلمي، ومعرفة الأسباب والعلل وراء الأنشطة المختلفة التي يقوم بها الفرد، ربما يولد تحديات كبيرة للمجتمعات التي تُؤمن بوجود أمور شرعها الدين علينا التقيد والالتزام بها دون النظر إلى أسباب فرضها علينا، ولذا فقد يرى البعض بأن التربية الدينية في بعض وجوهها تتصادم مع التنشئة التي تقوم على معرفة الأسباب والعلل وراء عمل ما والتي يدعوا إليها الفكر الناقد، ومن هنا فهؤلاء يرون بأن سنواجه تحديا في إقناع الأجيال الحديثة والقادمة في عدد من الأمور المرتبطة بالدين بسبب هذا النوع من التنشئة.
وقد يُقال بأن شؤون الحياة ومتطلباتها كثيرة، فلا يمكن تطبيق هذا النوع من التفكير ومحاولة معرفة الأسباب والعلل في كل صغيرة وكبيرة، وهذا الأمر صحيح تمامًا، ولكن التفكير الناقد يتم تطبيقه على المواضيع التي تُشكل أهمية خاصة في حياة الإنسان وتؤثر في مسيرته، ولأن الدين في مجتمعاتنا يُشكل أساس السلوك الفردي والاجتماعي؛ بل ويوجه طموحه وأحلامه، ويضع له ضوابط وأطر يسير عليها فأن تفكير الفرد ينصب عليه بشكل أساسي لما له من تأثير بالغ ومباشر عليه.
ولمواجهة هذا التحدي فإن البعض يحاول أن يتكأ في حواراته مع الأجيال الحديثة على مسألة التخصص في العلوم الدينية، وأن عليه التسليم للمختص في أمور الدين كما يقوم بذلك في القضايا المرتبطة بالصحة والمرض، فهو يسلم أمره إلى الطبيب، ويأخذ بما يقوله دون أن يسأل عن الأسباب والعلل، إلا أن الأمر يبدوا مختلفا اختلافا مهما، فنتائج كلام الطبيب تظهر بعد مدة من خلال شفاء المريض، فإذا لم يشف فأنه يتجه إلى طبيب آخر ولن يذهب إليه في المرات القادمة، بل إن التوجه للطبيب في الأصل يقوم في كثير من الأحيان على تجارب سابقة أوضحت براعة الطبيب ونجاحه، وبمعنى آخر فأن قوام تقييمه للطبيب قائم على التجربة والتي تُعد أحد أهم وسائل المعرفة التي تم تغذية الجيل الجديد عليها، أما القضايا الدينية فأن طبيعتها ليست تجريبية، ولا يمكن التعرف على نجاحها من فشلها خلال فترات زمنية محددة، ولذا يبقى الشك في وعي الأجيال الحديثة.
وهناك آخرون توجهوا إلى طريقة أخرى لحل هذا التحدي، وذلك عبر محاولة إضفاء اليقين أو مستوى عال من الصحة على كثير من الأفكار والسلوكيات والتقاليد الدينية ظنا منهم أن هذا التوجه سيقف أمام التساؤلات المثارة، إلا أن توفر مصادر المعلومات، وسهولة الوصول إليها عبر شبكة الإنترنت، يقف حجر عثرة أمام هذا التوجه، فيمكن لمن يرغب التحقق من الادعاء وفي حال تبين له أن قوة الأدلة لا تعادل قوة الادعاء فأن التشكيك لن يقف عند هذا الادعاء؛ بل سيعم المنظومة الدينية برمتها.
إن هذا النوع من التفكير والذي سيتزايد مع مرور الوقت سيُشكل تحديًا كبيرًا على المجتمعات والأسر الملتزمة والتي تسعى جاهدة إلى تربية أبناءها تربية محافظة وملتزمة بالتشريعات الإسلامية، لكنها ترغب في الوقت نفسه بأن تكون فرص حصولها على حياة منعمة ومفعمة بالنشاط والتقدم والازدهار كبيرة ومرتفعة، ولذا فعلى جميع المهتمين بالشأن الديني التفكير بصورة جادة، بإيجاد حلول ناجحة وبما يتلاءم مع التفكير الجديد.