أحمد العَبري.. فلجٌ شِعريٌ يجري

 

ناصر أبو عون

من أعالي (جبلِ شمس) تشرقُ شمسُ الشِّعرِ، وتنثرُ أشعتَها على مدارج (الحمراء)، تستحضر موازين الفراهيدي لتقيس صفاءَ اللغةِ، وشفافيةَ المعاني، وتجلو فسيفساءَ الصورِ المُطعّمةِ بالموسيقي.. هنا في (بيضةِ الإسلامِ) كانت ملاعبُ الصِّبا، ويفاعةُ الشاعرِ (الإنسان)؛ أحمد بن هلال العبري العُمانيّ المظهر والمخبر؛ المتشبث بأخلاقِ هذه (الأرضِ الطيبةِ).

هذا (الأحمدُ) دِسرٌ من الدّسار التي غرَّزها بخنجرِه أيقونةُ النضالِ العربيّ "سلطان بن سيف اليعربيّ" في شقوقِ الجبالِ، ووتّدها في الأبوابِ العتيقةِ اللازبةِ على حِيطانِ (بيتِ الصَّفاة)، مشكاةً شعريةً وضاءةً يتوزّعُ نُورها، في الأرجاء كافةً، قبسًا تستضيءُ به الثرياتُ المتدلاةُ من كوكبِ المجدِ السّيارِ في سماءِ عُمان علّقها اليعربيّ (أمانةً) في سماواتِ (مِسفاةِ العبريين) تتناقلُ رايتها أجيالٌ تَترى، زخّارةً بالمجدِ، ولاطَها من حَزَنِ سُهول (نزوى)، وقدّها من سَكائك السَّحاب الأبيّ الذي يظللُ هاماتِ (الجبلِ الأخضرِ)، واستوقدَ نارَها من الثواقبِ المنيرةِ في ليلِ البيوتِ النائمةِ في حضن (الانتصارات) و(جبهةِ التاريخِ)؛ وزَخْرَفَ بها سقوفَ بيوتِ الشرفِ والفخارِ في (العالي) المسكونِ برائحةِ (الخبيصة العُمانية)، وبارك فيها أزيزِ القرآنِ المتقاطرِ عسلا من أفواهِ الصبيةِ الرجال في حارةِ (العقر)، وأحيا ليلها بأحاديثِ النبوةِ و(مرويات جابر بن زيد) وعلّقها نجومًا على عتباتِ (الغنيمة) المستروحةِ بحكايا البطولاتِ للفوارسِ الأماجدِ، وزخرفها بحناء البطولاتِ، الباسقة على نوافذ (المغري) المطلة على شموخِ الحضارة وكبريائها المزهو بالنضال.. هذا الدّسر هو أحمد بن هلال العبري.

أمّا إذا تجوَّلت في نفسِ أحمد العبريّ الأمَّارةِ باليُسرِ، الهَمّامةِ بالخيرِ، المُنضّرةِ بالشعرِ ستجِدُ شاعرًا يتفصّدُ حرفُه عن صورٍ مشبوبةٍ مُتوقدةٍ، ورُوحٍ شاعريةٍ مائجةٍ، ولغةٍ صافيةٍ تتدفقُ بالرؤى المتناثلةِ، تتوثّبُ بين قوافيها وأشطرِها المعاني الصَّافية، يختدِمُها العَبريُّ في محرابِ كلماتهِ، ويستحلبُ بِها عُصارةَ ركامه، فتلمعُ فِضَّتها في أفلاجِ نزوى، فيجري (دارس) بماءِ الشعورِ العذبِ الرقراقِ، ويتراقص (السعالي) بـ"فرضِ" الموسيقى الدفّاق، ويصطف الكورس "ضوت" و"الدنين" و"الخوبي" ليصدحَ بأناشيد السلام رافعين رايات الإمام.

أحمد العبري شاعر(عُماني) الأرومة والأصول لم يخالط نَسبَه الشِّعريَّ غريبٌ مستهجن، وهو مبدُع (وسطيّ) لا حداثوي متطرِّف، ولا كلاسيكيٌ يستشرفُ كلَّ مُتقعّرٍ مستظرف، منحاز في غير تهوّر أو جمود لكل ما هو عُمانيّ يألفُ ويُؤلف، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، قابِض على جمر الشعر الأخلاقيّ لا تحركه الريح الزعزع، ولا يثنيه عن مآربه كل مُشاكسٍ معمع، وبغير أخلاق أهل عُمان لا يتلفَّع، تتمخّضُ الجبالُ الرواسي في حضرةِ الإغراءِ والغوايةِ، وهذا العبريُّ النزويُّ راسخُ الجِذرِ والأفرع، لا يخضعُ ولا يتضعضع.

أحمد العبريُّ حاملُ مِسك القصيدة والقبيلة، مَن خالطه اشتمَّ في صُحبته عبقَ أزاهير الجبلِ الأخضر، يتعلّق بأستارِ العروبة، يجدها ملاذا من شماتةِ الأغراب، ومتراسا صُلبا وتميمةً تدفع كل غُرابٍ نعّاب، مفطورٌ على عِشق العربيةِ اللسانِ والإنسان، له في كلِّ قُطرٍ من المحيط إلى الخليج صحبٌ وإِخوان، شاعرٌ عابِرٌ للصداقاتِ سائحٌ في الآفاق، يلينُ جانبُه لكلِ خُلقٍ كريمٍ، ويشعلُ أصابعَه شموعًا لينير الدربَ لكل شِبلٍ على الصراطِ يستقيم، يتجنّب مواطنَ الشُّبهات، سيّاحٌ في البلدانِ طلبًا للعلمِ والمؤانسة، حسنُ السيرة والمسيرة، سهلُ المَعشرِ والمجالسة.