الواسطة.. والشفافية الزجاجية

 

د. عبدالله باحجاج

كل من يلتقي بي من الباحثين عن عمل- كما حدث مؤخرًا- يشتكي من الواسطة، ويُبدي امتعاضه واستياءه من تفويت فرص عمل عليهم لصالح آخرين أقل مستوى، ويرون أنَّه يتم إسقاطهم على "بعض" الوظائف تجاوزًا للاختبارات والمُقابلات، فهل فعلاً ما زالت الواسطة قائمة؟ وهل هي في كل القطاعات؟

من حيث المبدأ، يفترض أننا في مرحلة تُمارس فيها الضغوط المرتفعة على الأداء العام والخاص، خاصة في ملف التشغيل الحساس جدًا، والذي يُحتم النزاهة والأمانة والشفافية فيه، ومن هذا المنظور، يفترض ألا تكون الواسطة أو المحسوبية موجودة، لكن الواقع غير ما ينبغي أن يكون عليه من مرئيات الباحثين.

فلا تزال الواسطة والمحسوبية قائمة، لكن، ما حجمها وما مستوياتها القطاعية؟ هنا لا يُمكن الجزم بذلك، لكن وفق ردود فعل الباحثين، فهم يعتبرونها "متعمقة"، وهنا الإشكالية التي يستوجب حلها، فلا يمكن أن نترك مثل هذه الاعتقادات تُشكِّل قناعات الباحثين رغم الجهود التي تبذل في ملف التشغيل، ورغم مُلاحظاتي بنسقها التقليدي، وبعدم تطورها إلى مستوى الرهانات على المستوزرين الجدد، فنفس آليات توفير فرص العمل، واستحقاقاتها القديمة لم يطرأ على جوهرها ما يكسب رضا الباحثين.

هناك عدة روايات من الباحثين عن عمل بشأن الواسطة والمحسوبية، من كثرتها، تخرج بانطباعات، وكأن الواسطة وأخواتها تلعب على المكشوف وفي وضح النهار- ولا نعمم ولا نحصرها في أية قطاعات حكومية أو عسكرية أو خاصة- وإنما فقد وردت ملاحظاتي منهم بتجارب شخصية، لذلك نطرح القضية من منظور ما يدور في ذهنيات الباحثين عن عمل وأولياء أمورهم، وما يجب أن يكون عليه الوضع لكسب الرضا الاجتماعي في ملف التشغيل.

ومن بين الذين التقوا بي شاب تخصصه مُبرمج كهربائي، تعب على تخصصه كثيرًا، وكسر فيه حاجز التفوق، يُحدثني عن ولوجه اختبارا تحريريا في إحدى الشركات العمومية، ووقت المُقابلة، قيل له، حسمنا نتائج الاختبارات، ولم نرَ حاجة للمُقابلات، حاول معرفة نتيجته، فلم يتمكن، وفي مشوار بحثه عن فرصته، تمكن من الحصول على وظيفة في تخصصه في شركة عمومية أخرى، لكنه تفاجأ بتعيين شاب لم يدخل معهم الاختبارات والمُقابلات، على حد قوله.

مثل هذه الملاحظات، وما يترتب عليها من سيكولوجيات، لا يُمكن تجاهلها عبر التقليل أو التشكيك فيها، خاصة في ضوء مُعطيات الكل يعلمها؛ حيث ما زالت المركزية تنظر وتنفذ من أبراج عالية، ولا تراعي البعد الجغرافي، كما ما زالت عمليتا التستر والتكتم على نتائج الاختبارات والمُقابلات سارية المفعول، ولم تحاول كسب رضا الباحثين، من هنا نرى، أنه مهما كان الاختلاف بشأن عمومية الواسطة والمحسوبية وشموليتهما ومستوياتهما القطاعية، فإنَّ الشفافية لا يجب أن نختلف عليها، وغيابها يفترض كل شيء سلبي، بل وكل السلبيات في باطنها.

وفي حالتنا الوطنية، بما فيها من تراكمات سابقة عن تاريخية عدم الثقة والواسطات والمحسوبيات التي تقصي الحق عن صاحبه، ولا تضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وتنقل الفرد بـ"ريموت كنترول" من أصفار إلى مالك عقارات وعمارات ومناصب كبيرة، فإنَّ الشفافية المطلوبة الآن، لابُد أن تكون في سقوفها العليا، إذا ما أردنا للجهود التي تبذل حاليًا الصدقية والمصداقية.

لذلك.. يستوجب أن تكون الشفافية من زجاج شفاف الذي يكشف للخارج ما بالداخل، كما فعل خالد الرواحي المدير العام السابق للمديرية العامة للعمل في محافظة ظفار، عندما بدل أبواب مكاتب المسؤولين بما فيها مكتبه، من خشب لا يُرى ما بداخلها، إلى زجاج شفاف عاكس ما بداخله، بحيث يمكن لكل مراجع أن يرى بعينيه المجردتين وجود المسؤول داخل مكتبه، وانشغالاته في إطار عمله.. إنها الشفافية الزجاجية التي تكسب الرضا الاجتماعي، وينبغي أن تكون عنوان مرحلتنا الوطنية الراهنة، وبالذات في ملف التشغيل في البلاد.

والسؤال الآن: كيف يمكن أن تنعكس فلسفة الشفافية الزجاجية من حيث التطبيق؟

نجدها في تعميم استخدام التكنولوجيا في الاختبارات والمقابلات لكل المؤسسات الحكومية والخاصة، وتظهر نتائجها أولاً بأول وفورًا عبر شاشات تلفزيون في قاعة ينتظر فيها الباحثون عن عمل، عوضًا عن تأجيلها، وإعطاء كل باحث عن عمل الحق في الاطلاع على نتيجته، إذا ما تولد لديه الشك فيها، وكذلك الحق في التظلم، وما أقدمت عليه وزارة العمل يوم الخميس الماضي بنشر أسماء المُعينين في القطاعين العام والخاص خلال النصف الأول من العام 2021، خطوة مهمة في اتجاه الشفافية المطلوبة اجتماعياً التي تضع الكثير من النقاط فوق حروف، لن تقرأ كما يجب بسبب التكتم والسرية، ويمكن من خلال الأسماء المنشورة وعددها، مقارنتها بالعدد الكلي للذين توظفوا خلال نفس الفترة، ورغم أهميتها، لكنها شفافية منقوصة.

ونتمنى الانتقال إلى الشفافية الزجاجية كنهج وممارسة- كما أشرنا إليها- وإذا ما سألت أولياء أمور الباحثين عن عمل: لماذا لم يتوظف ابنك/ بنتك حتى الآن؟ تجدهم يحمِّلون الواسطة المسؤولية، ولو غيرت السؤال إلى: لماذا لم يتوظف ابنك/ ابنتك في وزارة ما أو شركة كبيرة لأنَّ تخصصه مطلوب؟ يعزون السبب إلى الواسطة، وتتشكل الاعتقادات الاجتماعية المعاصرة على هذا الفهم المُعمم حتى لو كان عكس ذلك!!

لذلك الحل في الشفافية الزجاجية فهي عدوة الواسطات والمحسوبيات، ودونها لن يقتنع المجتمع بالمصداقية، ولماذا لا تعتمد هذه الشفافية إذا كانت ستصنع الرضا، وتحبط الاستياءات في ملف يتصدر قمة الاهتمامات الوطنية، وذات حساسية مرتفعة؟