قصة من تراث ظفار المروي

خالد بن سعد الشنفري

يُحكى أنَّ رجلاً من المدينة كان له خمس من البنات ولم يرزق بأبناء ذكور، تزوجت أربع من بناته في المدينة من عرسان مُقتدرين ماديًا، وزوج الخامسة من ابن صديق له من بادية ظفار.

مرَّت السنون، وأثير موضوع ثأر قديم كان على والده بعد سعي أصحاب الثأر لنبشه وعرض الموضوع على شيوخ السنن القبلية وأهل الحل والعقد بها والمعنيين بدأب أمر هذه الثأرات القديمة التي تبقى ولا تموت، إذا لم تحل بالصلح والدية ويتوارثها أبناء وأحفاد الطرفين جيلاً بعد جيل إلى أن يكتوى بنارها في أي لحظة وقد تتوسع وتكبر من جديد وتصبح كالنار في الهشيم.

كان حكم أهل السنن القبلية بمبالغ نقدية وأعداد من الإبل، وكالعادة وقفت القبيلة كلها بجانبه وفرضت الشتر على الجميع لتشتيت هذا المبلغ الكبير بين أفرادها، لكن الفترة كانت من فترات الجدب والضنك التي مرَّت بها ظفار وقبيلته ليست كثيرة العدد فتبقى جزء من مبلغ الدية المحكوم بها عليه من المال والحلال. لجأ إلى أصهاره أزواج بناته لوضعهم المادي ولأنه جدٌ لأبنائهم، ولكنه تفاجأ بزهادة ما ساهموا به وكل منهم يعتذر ويردد نفس الجملة "صهرك الآخر فلان أفضل مني حالاً ومالا" فاقصده.

ضاقت به الدنيا بعد أن أنهكه التفكير وأخذ منه التعب فقرر أن يذهب إلى البادية لزيارة ابنته التي طال زمن رؤيته لها وليبعد لفترة عن الهم الجاثم عليه في المدينة ليل نهار هناك في فضاءات الصحراء الواسعة. وكان زوج ابنته وأولادهم مخيمين مع إبلهم وبعض الغنيمات على حافة كثبان تلاصق واحة صغيرة أثناء زيارته لهم.

وفي إحدى الليالي وبعد أن أنجزت عائلة الصهر البدوي أعمالها الروتينية المعتادة واستعدوا لفترة العشاء واستراحة القهوة والسهر على ضوء نار الحطب، كان قد بدأ يلفت انتباه البدوي وهو الحذق بطبعه وطبيعته حاد البصر والبصيرة، أن عمه شيء ما يؤرقه وكثير السرحان، فسأله ماذا بك يا عم عسى ما شر؟ ما الذي يُنغص خاطرك؟ إلا إذا تحسبني لست بمثابة الولد لك وجدٌ لأولادي. ما كان من العم بعد هذا الطلب إلا أن يخبره بقصته، وما كان من البدوي إلا أن عاتب عمه بلطف قائلاً ولم لم تخبرني يا عم وأنت معنا منذ أيام وماذا عن أصهاري أزواج بناتك الأخريات، فقد منَّ الله عليهم بنعمِه، وهذه وقتها وحزتها ليكونوا أول الواقفين بجانبك وإلا متى ستكون فائدتهم؟!

أجابه العم؛ يا ولدي ما قصروا ولكن كلا منهم لديه التزاماته ومسؤولياته وتعرف ما تمر به البلد في هذه الفترة من أزمة وشدة في العيش ربي يحفظكم جميعًا.

ذخرا لأبنائكم وزوجاتكم، لقد كنت أتمنى يا ولدي أن يأخذ أصحاب الثأر ثأرهم من حياتي ويخلصوني من كل هذا فقد عشت حياتي ولم يعد فيها مهم. أما أنت يا ولدي فعدم إخباري لك لم يكن انتقاصاً منك، فأنت ابن صديقي الغالي وزوج ابنتي، فقط لا أريد أن أحملك همي واعرف حالك وحال نجد ظفار وباديتها عمومًا، فقد قلَّ الكلأ في السنوات الأخيرة وجدبت الأرض وتقلص الضرع المعتمدة عليه جل حياتكم، وأصبحت البادية طاردة، وقد نزح الكثير منها إلى صلالة، وبالمناسبة كنت أفكر أن أعرض عليك أن تأتي مع أولادك للعيش لدينا في صلالة؛ فهي أرض خصبة، وتعرف أن لدي مزرعة، أجزاء منها غير مستغلة، بإمكانك زراعتها والعيش منها أنت وأولادك معززا مكرمًا بيننا، فلزوجتك فيها حق شرعي.. ما رأيك يا ولدي؟

أجاب الصهر البدوي: "اتركنا من موضوع مجيئنا إلى المدينة من عدمه يا عمي الآن، فليس وقته"، أما موضوع عدم استطاعتي الوقوف بجانبك في محنتك هذه ومساعدتك سأبرهن لك عدم صحته، يا ليتك يا عم، لم تكلف نفسك كل هذا العناء طوال الفترة السابقة ونسيت أن لك صهرًا وولدًا، اشرب قهوتك الآن يا عمي وطب نفسًا، وسيأتينا العون بإذن الواحد الأحد وحالا.

نادى البدوي على أبنائه وطلب منهم أن يجمعوا أكبر كمية ممكنه من الحطب وأن يضعوها على قمة المرتفع الرملي، فانطلقوا كالضواري في الاتجاهات الأربعة، وما هي إلا ساعة حتى جَمعوا كومة كبيرة منها، سارع لإضرام النَّار بها ليصل ضياء نورها إلى أقصى مسافة وأوسع رقعة رؤية ممكنة.

ما هي إلا سويعات حتى توافدت أعداد غفيرة من قبيلة البدوي على ظهور إبلهم إلى حيث النَّار؛ فهي إشارة إلى وجود مستغيث وتجمعوا ونادى فيهم البدوي بالخبر، فقرروا حالا نحر بعض الإبل ترحيبًا بالضيف الصهر، بعدها تبرع كل منهم بواحدة أو اثنتين من إبله والمقتدر منهَم بأكثر، ولم يحن عليهم موعد أذان الفجر حتى جمعوا 200 من الإبل وأوفدوا بعض شبابهم لمرافقة القافلة مع الصهر ليوصلوه وقافلته بأمان إلى المدينة ورجعوا بعدها قافلين. سددت الإبل المتبقي من الدية وزادت عن ذلك.

من أهم حسنات القبيلة تشتيت المخاطر فيما بين أفرادها ولا زال هذا المبدأ قائماً إلى الوقت الراهن عندنا في عُمان والحمدلله، ويمكن تشبيهه بالتأمين في عصرنا هذا مع الفارق.