شاهدٌ من أهلها (2)

د. قاسم بن محمد الصالحي **

ومهما تغزلت بصور جديدة ومبهرة، تظل بواعثي ثابتة؛ للتغني بالرصانة العُمانية، فيأتي الموضوع الحقيقي لشهادتي وهو الوصول إلى العوامل التي ساهمت في إنجاح دبلوماسيتها في تقريب وجهات النظر بين المتخاصمين، والتمكين من الوصول إلى اتفاقات لبناء السلام، لتخطو خطا مختلفا، وتقدم فرصة للتعرف على أسلوب جديد للنظر إلى السلام من خلال عوامل الدعم القوي الذي قدمته القيادة العُمانية للأطراف المتنازعة بقصد إيجاد حل سياسي للأزمات، والتعامل الذكي والإحاطة الدقيقة بكل تفاصيل الملفات، وتداخل معطى النزاهة مع خصوصية الملفات؛ وعدم فرض أي خطط، بل التشديد على بناء الثقة بين الأطراف، ووقوف المفاوض العُماني على مسافة واحدة من الحياد إدراكاً منه أن بناء الثقة ممر أساسي لنجاح أي تسوية سياسية.

شهادتي كما أقول دائمًا هدفها البحث وتقريب المعلومة لك عزيزي القارئ فيما مكّن هذا الحياد الإيجابي من توفير مناخ سمح لبناء جسور الثقة بين كافة الأطراف، الواقع أن النجاح لا يكمن فقط في بناء جسور الثقة بين طرفي الأزمة، بل أيضًا في الحفاظ على مكتسبات السياسة العُمانية.

صحيح أن الواقع الإقليمي ساهم في إدراك الأطراف، أن منطق الحرب لن يفضِ إلى بروز طرف رابح، لكن الدبلوماسية العُمانية وظفت بذكاء العامل الزمني لتعمل على إزاحة جملة من العراقيل التي عرفتها - مثلا - العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأدركت منذ الوهلة الأولى أنه لا يمكن حل الأزمة إلا من خلال إطار قانوني يُؤسس لبناء علاقة سلمية قوية.

كما أن هناك نقطة أخرى تحتسب لصالح الدبلوماسية العُمانية، تتمثل في كونها لم تقتصر فقط على إرساء جسور الثقة بين الأطراف، بل عملت أيضًا على بعث رسائل طمأنة لمختلف القوى الإقليمية والدولية؛ وقد حظيت هذه المقاربة الواقعية بإشادة دولية واسعة من قبل القوى السياسية الكبرى، خصوصا أنها فتحت آفاقا واسعة تاريخية بين أطراف النزاع، والأهم قبل هذا وذاك هو اجتماع الطرفين على طاولة واحدة، وهو الأمر الذي كان مستحيل التحقق، وقد نجحت بعد إجراء محادثات صامتة طويلة بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإسلامية الإيرانية في توقيع الاتفاق النووي في يوليو 2015م، بين إيران والدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن "روسيا والولايات المتحدة وفرنسا والصين وبريطانيا" وألمانيا.

إن اللجوء إلى ما أوجده الوعي البشري بكدح القلب والعقل في ميادين الحياة ليس غريبًا على من تسكن في داخله روح التفاؤل، كذلك من الطبيعي أن يجد الدبلوماسي مبتغاه في خواطر الفهم والتأمل المتحررة من القيود، أخذت نفسًا عميقًا، ثم أغمضت عينيّ لثوانٍ طلبًا للتركيز على مواقف أكثر إيجابية، وقبل أن أخاطب نفسي، قلت: حتى لو تسربلت معرفتي بثوب الثناء، لن أكون في لوحة شهادتي سجينًا للصمت ما دمت أخلع عليها ما أشتهي من صفات النجاح، وأقوم بإهداء القارئ تفقهًا بهذا المفهوم.

لكن ما جعلني حائرًا حقًا هو الواقع الذي لا يكفّ عن الصراخ في رأسي، ألم تعلم بعد -أيها المسكين- أنه كلما زادت معرفتك، اتسعت معها عين إدراكك للقبح والبشاعة؟! مما يقلل في النتيجة منسوب إيمانك بالنجاح، ومع ذلك فإن عنادي أشد ضراوة من أخبار شرور الصراعات المرعبة التي تطرق سمعي كل حين، أعلم أن كل طرفٍ يُشيّعُ قتلاه، ويقع في حيرة رهيبة، يقول في نفسه وقد أمسى مقتنعًا أن نيران الحروب والصراعات واقع لا مفر منه، لم يكن الضحايا يومًا من يجعل نيرانها مشتعلة، فخديعتها أنها تقتل ضعفاء الأمل لتستثني أقوياء الطمع والجشع، كم يلزم للأرض التي ضاقت باختلاف ألوانها من مساحات نظيفة، لتكبر في عين الكون وتصبح جديرة بوجود السلام، كل شيء يحيل الفكر إلى جوهر لونين يتصارعان، يتسيدان فلسفة الحياة، بتجسدات الخوف والشجاعة والبطولة.

أمام تلك المفارقة العجيبة التي تجسدها طبيعة متكيفة مع النور إزاء تقلبات الأحوال والظروف التي يصعب عليها تقبل الصراحة والوضوح فيها، تكفينا وقفة صدق لنتبين أن السيطرة على الأمور السيئة مهارة لا يتقنها الجميع، كما أننا نكون سريعي التأثر بكل ما يتفق مع أهوائنا ومصالحنا، لذا لن أحاول افتعال شعور أو انطباع في ذهنك -أيها القارئ- فأنا لا أملك شخصيًا إمكانية السيطرة عليه، ولأن العقل غالبًا ما ينجح في استخلاص المناسب وهو في خضم تجاربه، فقد أصبح لزامًا عليّ أن أكون أكثر فهمًا وقربًا من لوحة شهادتي، سواء أكنا دبلوماسيين أو من مجموعة المراقبين بين السلام والصراع، أجد أن عنوان مساهمة الدبلوماسية العُمانية بالتحديد هو تسهيل الأمر وبناء الثقة بين المتخاصمين، هذا المبدأ تبنته ليكون رمزًا لمكانتها في العالم، وقد بلغت الذروة في مسار التمهيد لعلاقات هادئة، سواء أكان ذلك بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، أو في معالجتها للقضايا الإقليمية الأخرى، وغالبا ما توصّلت إلى حل وسط، كما تصوغ الاتفاقيات النهائية دون التساؤل عما إذا كان الجميع يوافق على نتيجة المفاوضات، بل ركزت على الحوار حول حقيقة وجوب خوض ساعات من المناقشات بعيدًا عن الأضواء من أجل تحقيق نتائج فعالة على رقعة الشطرنج الإقليمية والدولية.

نهضت أخيرًا من مكاني، وسرت بخطوات متزنة مقتفيًا أثر ما توصلت إليه من مشاعر وأحكام في شهادتي، تناولت من أعماقي بعض الأدوات البسيطة، تأملتها، ثم هذّبتها بلطف، وبدأت واثقًا ومستعدًا لقول شيء ما، ورغم أن الشرور على الأرض لم تنته بعد إلا أنه كلّما ماتت نجوم في السماء تركت وراءها سحابة كونية تولد منها نجوم جديدة ترتسم صورة للأمل، ففي حالة العلاقات الأمريكية - الإيرانية، تطلبت المفاوضات إشراف شخصية مرموقة - سُّلطان عُمان - تثق بها قيادات البلدين، متمكّنة من كافة القضايا وقادرة على التشاور مباشرة، متعهدة بعدم تسريب محتوى المحادثات، وهكذا كسبت الثقة وتمكنت من حل المشاكل الدبلوماسية بين الطرفين.

ويمكننا أن نذكر تلك اللقاءات التي جمعت وزيري خارجية البلدين حينها كثيرًا ما وصف كل منهما الآخر بالصديق، وكلما زادت حدّة المشكلة ومدى تعقيدها زادت العواطف المرتبطة بها على كلا الجانبين، فقدّمت الدبلوماسية العُمانية شعاعًا من التفاؤل، وجنبت الصدام العسكري بينهما، من خلال إدراكها أن الأنماط المعتادة للنزاع تأخذ وقتا طويلا، فتحويل النزاع لا يكون بسهولة وبسرعة، وقد يأخذ عادة عدة سنوات حتى يصبح أطراف النزاع في غير حاجة للطرف العُماني.

إن مقدار البؤس في العالم جعل السعادة تذوب في قلوبنا كَما يذوبُ السكرُ في الشّاي، سعادة تُنهِي مَشقةَ مشوار المفاوضات، سعادة فتحت الرُؤى للنجاح في بناء السلام الذي يحتاج إلى علاقات نوعية تبنى مع مرور الوقت مع أطراف النزاع، وجزء كبير من هذا العمل توقف على الثقة بين كافة أطراف النزاع، وذلك من خلال الالتزام طويل المدى، والحضور الثابت والمنظم مع أطراف النزاع والاستماع لهم، والثناء على شجاعتهم لمحاولة تفادي المخاطر، وإن هذه المشاركة النشطة جعلت من الدبلوماسية العُمانية شريكة  في بناء السلام، فرغم أن دخولها كطرف محايد لم يمنعها من التفاعل مع الطرفين والتأثر به، لذلك بنت علاقات إنسانية ضمن حدود السلوك المحترف والأخلاقي.

 

***********

يغوص سعادة الدكتور قاسم بن محمد بن سالم الصالحي سفير السلطنة لدى جهورية تركيا الصديقة، في أعماق الدبلوماسية العُمانية، في كتابه الجديد "شاهد من أهلها"، والذي تنشره "الرؤية" على حلقات في هذه المساحة.

وقد استخدم الصالحي أسلوب السرد الذاتي بما يعكس عبقرية التجربة وصدقها، موظفًا الأسلوب الأدبي الرشيق المُفعم بالعبارات الفصيحة، المُعبِّرة عن مكنون الأحداث وتفاصيلها. وتفاديًا لأي مللٍ قد يتسرَّب إلى القارئ، نجح الصالحي في توظيف عدة أدوات سردية، فتارة يُجري المؤلف- باعتباره الراوي العليم- حوارات مُباشرة ومفتوحة مع القارئ، وتارة يتنقلُ بين التقنيات الحكائية بحرفية، تطوف بنا في عوالم السيرة الذاتية.

والدكتور قاسم الصالحي، سفير وكاتب من مواليد 27 مارس 1963، تدرج في العمل الدبلوماسي، حتى وصل إلى منصب سفير، ويهوى الكتابة والتأليف، وكثير الاطلاع على الآداب بفروعها، كما إنِّه قارئ نهم، تشرب من مختلف الينابيع الفكرية.

وللصالحي مؤلفات عدة؛ من بينها: "الدبلوماسية العُمانية وتحديات العولمة"، و"زماني الجميل"، و"فكر الحوار المفتوح"، و"الذات محور التنمية"، و"سلطنة عُمان والمنظمة العالمية للتجارة.. أثر الانضمام"، و"العوامل الأساسية في تاريخ الدبلوماسية العُمانية"، و"كنت هناك".

تعليق عبر الفيس بوك