تقدم حقوقي وتقدير عالمي للسعودية

د. هادي اليامي **

يأتي التقرير الأخير الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، والمتعلق بتصنيف الدول في مجال مكافحة الاتّجار بالأشخاص؛ ليمثل اعترافا عالميًا جديدًا بمساعي المملكة العربية السعودية، لتعزيز الجهود الرامية لمُكافحة تلك الجريمة؛ حيث أكد التقرير تقدم السعودية للعام الثاني على التوالي للمستوى الثاني في التصنيف، وتأكيد مواصلتها السير قدمًا في حماية وتعزيز حقوق الإنسان بصورة عامة، ومكافحة الاتجار بالبشر بشكل خاص.

هذه المكانة المتميزة لم تأتٍ إلا بعد جهود مضنية، بذلتها كافة الأجهزة ذات العلاقة، بتوجيهات واضحة من أعلى مستويات القيادة، وإشراف مباشر من سُّمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي يقف بنفسه على الإصلاحات التي تشهدها المنظومة القضائية، والثورة التشريعية الكبيرة التي تهدف بالأساس إلى تطوير البنية القانونية والمؤسساتية، لاسيما ما يتعلق بحقوق الإنسان.

وتعرف المادة (3) الفقرة (أ) من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود الاتجار بالبشر بأنه يشمل تجنيد الأشخاص أو نقلهم وتحويلهم أو إيوائهم بدافع الاستغلال أو حجزهم عن طريق التهديد أو استخدام القوة أو أي من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو الابتزاز أو إساءة استخدام السلطة أو استغلال مواقف الضعف أو إعطاء مبالغ مالية أو مزايا بدافع السيطرة على شخص آخر لغرض الاستغلال في شبكات الدعارة وسائر أشكال الاستغلال الجنسي أو العمالة المجانية والسخرة أو العمل كخدم أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق، أو استعباد الأشخاص بهدف الاستخدام الجسماني ونزع الأعضاء.

وقد ركزت المملكة خلال السنوات الماضية على محاربة جريمة الاتجار بالأشخاص، وأقرت عددا من الوسائل والأدوات الفاعلة لتحقيق ذلك، انطلاقاً من تعارضها مع تعاليم الإسلام الذي اتخذته قانونا ودستورا ومصدرا أساسيا للتشريع، لذلك سنت قانوناً يُغلظ عقوبة المتجاوزين التي تصل إلى السجن لمدة 15 عاماً أو الغرامة أو كلا العقوبتين، وأنشأت لجنة دائمة تتولى تنسيق الجهود الوطنية الرامية إلى مكافحة هذه الجرائم بمختلف أشكالها، إضافة إلى الاهتمام بنشر الوعي بهذه القيم الأصيلة بين أفراد المجتمع.

لم تكتف المملكة بذلك، بل توسعت في جهودها، وقامت بتأسيس مراكز للاتصال الموحد تقدم خدماتها للعمالة الوافدة بثماني لغات. وتتمثل مُهمة تلك المراكز في تلقي شكاوى الضحايا وحل الخلافات التي قد تنشأ بين العامل وصاحب العمل بما يحفظ حقوق الطرفين، ومن مهام اللجنة إنصاف العامل حتى ولو كان قد قام بالتوقيع على شروط مجحفة في حقه. كما أولت القوانين السعودية اهتماما خاصا بالنساء والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة، وفرضت عقوبات مشددة بحق كل من يرتكب تجاوزات بحق هذه الشرائح.

تلك الجهود هدفت كذلك للتواؤم مع الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها المملكة للتفاعل الإيجابي مع منظمات المجتمع الدولي، وهو ما تجلى في إصدار 60 قراراً إصلاحياً تناولت حقوق الإنسان، وكانت عملية الإصلاح الأبرز في هذا المجال هي تلك المتعلقة بالعمالة الوافدة، لإضفاء المزيد من الشفافية وتحسين العلاقة التعاقدية، وتعزيز الممارسات الأخلاقية العادلة للعمل، وحفظ حقوق العمال وترقية الخدمات المقدمة لهم.

لذلك منحت التعديلات العامل الوافد الحق في البحث عن فرصة عمل أفضل إذا امتنع كفيله عن تسديد رواتبه لثلاثة أشهر، أو أخفق في تجديد إقامته ورخصة العمل، أو لم يكن هناك عقد ملزم بين الطرفين، أو توفي صاحب العمل، وغير ذلك من الحالات والظروف التي أوضحها النظام بشفافية تامة.

كذلك ركزت التعديلات على ضمان حقوق العمالة المنزلية التي تمثل أكثر الشرائح ضعفا وحاجة للإنصاف، وتم في هذا الصدد استخدام أحدث الوسائل التقنية لإيجاد سوق عمل مرنة تضمن حقوق الطرفين، وذلك عبر توثيق كل مراحل عملية الاستقدام منذ استخراج التأشيرات والتعاقد والدفع الإلكتروني، إضافة إلى إجراءات المتابعة التي تتم في مواطن العمالة المنزلية، لضمان عدم تعرضهم للاستغلال، حتى في بلادها.

كل تلك الإجراءات والتحسينات تقوم بها المملكة بإرادة سياسية مستقلة، بعيدًا عن أي إملاءات أو ضغوط خارجية؛ لذلك كانت سباقة في المصادقة على بروتوكولات الأمم المتحدة المتعلقة بمكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص بمختلف صورها، وحرصت كذلك على استمرار التعاون مع المنظمة الدولية والهيئات المنبثقة عنها، وأيدت بقوة خطة العمل المخصصة لهذا الأمر، ورحبت بتبني الخطة من جانب الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وعرضت استعدادها التام لفعل كل ما يؤدي إلى إنجاحها.

اللافت في الجهود السعودية أنها لم تقتصر على الجهات الحكومية، حيث تشارك منظمات المجتمع المدني فيها بفعالية كبيرة، وهو ما يضمن استدامتها ونجاحها وجعلها جزءا لا يتجزأ من ثقافة المجتمع وتقاليده الراسخة، لاسيما مع التوجه الحكومي لتعزيز دور هذا القطاع غير الربحي.

تلك الجهود المتواصلة والجادة وجدت الإشادة من جهات قانونية وسياسية دولية، حيث أشار ممثل مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي، الدكتور حاتم علي، إلى أن إطلاق الآلية الوطنية للإحالة مع تدشين خدمة الإبلاغ الرقمي لاستقبال الشكاوى في هذا الوقت الحرج الذي يشهد انتشار جائحة كورونا دليل على جدية الرياض لتطوير منظومة التصدي الوطني لهذه الظاهرة. كما أشاد وزير الخارجية الأمريكي، انتوني بلينكن، بذات الجهود، معربًا عن دعم بلاده للحكومة السعودية.

ما أريدُ التأكيد عليه في الختام، هو أن المملكة دائمًا تجني ثمار اهتمامها بحقوق الإنسان خيرًا وفيرًا في جميع المجالات، وفي مقدمتها جذب المزيد من الاستثمارات؛ لأن المستثمر الأجنبي يحرص على وجود قوانين واضحة تحمي حقوقه ومكتسباته، ووجود أجواء من المؤسسية والحوكمة والشفافية، التي هي من أبرز سمات دولة القانون.

** كاتب سعودي