الحج في زمن الجائحة.. نجاح قياسي لموسم استثنائي

د. هادي اليامي

كاتب سعودي

ها هي المشاعر المقدسة تتأهب لوداع ضيوفها الكرام الذين قضوا أيام التشريق بعد أن أتموا مناسكهم في موسم حج استثنائي شهد نجاحا لافتا، ومع محدودية عدد الحجاج الذي اقتضته متطلبات التصدي لتفشي فيروس كورونا (كوفيد – 19)، ورغم الأخطار التي تحدق بأي تجمع بشري، وارتفاع احتمالات الإصابة، إلا أن الإجراءات التي اتخذتها السلطات المسؤولة في المملكة، والدقة المتناهية في التعامل مع الأوضاع أسهمت في اكتمال الموسم وفق ما تم التخطيط له بالضبط، بعد وضع كل الاحتمالات في الحسبان وعدم ترك أي شيء للصدفة.

انقضى موسم الرحمة بتميز تام، ونجاح منقطع النظير، وإجادة متكاملة، بعد أن تهيأت مكة المكرمة وأخذت زينتها لاستقبال ضيوف الرحمن الذين ازدهت بهم جنباتها، وازدانت شوارعها وحواريها، لتضيف سطرا مضيئا في تاريخ الإسلام. ففي مثل هذه الأيام من كل عام تكتمل فرحة ساكني أم القرى وعروس المدائن وهم يقومون بالدور الذي اختصهم به الله سبحانه وتعالى دونا عن جميع خلقه، فتتلألأ البسمات الصافية فوق وجوههم ويتسابقون لخدمة قوافل الحجيج وتقديم كل ما يلزمهم من مساعدة.

اكتملت كافة الاستعدادات في الأراضي المقدسة منذ وقت مبكر، وتوفرت جميع عناصر النجاح، بعد أن وقف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز – حفظه الله - على الأوضاع بنفسه، وتابع كل صغيرة وكبيرة مع الأجهزة المختصة، واطلع على الخطة العلمية المدروسة التي راعت التغيرات التي يشهدها العالم في الوقت الحالي بسبب انتشار الجائحة، واستصحبت كافة الإجراءات الاحترازية التي تتطلبها مستلزمات الوقاية من الفيروس القاتل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، فتأهبت المستشفيات، وتم وضع العديد من الخطط البديلة للتعامل مع كافة المواقف، لذلك كان النجاح طبيعيا لذلك العمل الدؤوب الذي لم يعرف القائمون عليه التثاؤب.

أبرز الإضافات التي شهده موسم الحج الحالي تلك المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والتقنية الحديثة، حيث تم تقديم ساعات ذكية لضيوف الرحمن، تمكنهم من طلب المساعدة الطبية والأمنية والتوجيه، واستعراض الحالة الصحية في توكلنا، ومعرفة العلامات الحيوية.

كما تم توفير بطاقة "شعائر" الذكية، المرتبطة بتطبيق إلكتروني، لتسهيل أداء المناسك، حيث تتوافق مع المواصفات الفنية ومعايير الأمان المعتمدة بدقة المعلومات؛ وتتضمن جميع المعلومات الشخصية، ورمز الاستجابة السريعة، وترميز أحادي الأبعاد، وتتم قراءته للتحقق من معلومات حامل البطاقة، إلى جانب ميزة هوية النطاق المكاني، لإرشاد الحجاج التائهين.

لم ينجح الفيروس المخيف الذي أرعب العالم أجمع في كسر عزيمة السعوديين، ولم يتسبب في تعطيل أداء الفريضة، ونجحت الحكمة السعودية في التوصل إلى القرار الصائب بقصر أعداد الحجاج على 60 ألفا من داخل المملكة، وتمسكت للعام الثاني على التوالي بقيام موسم الحج وفق إجراءات استثنائية تضمن عدم انتشار الفيروس، وهو القرار الذي وجد إشادة عالمية واسعة لما تضمّنه من بعد نظر، وتأكيد أن سلامة الحجاج هي أولوية تسبق ما عداها من اعتبارات.

خلال الموسم السابق لم يتجاوز عدد الذين أدوا الفريضة 10 آلاف حاج، لكن هذا لم يثن السلطات المختصة عن فرض إجراءات في غاية الدقة، حيث تم أخذ كل التحوطات اللازمة، ووضعت كل الاحتمالات في الحسبان، لذلك سارت الأمور كما هو مخطط لها.

وبالعودة إلى المشهد في مكة والمشاعر فقد كان لافتاً أن محدودية عدد ضيوف الرحمن لم تدفع المملكة إلى تقليص ما تبذله لخدمة الحجيج، بل على العكس من ذلك فقد كان ذلك دافعا لمضاعفة الجهود، فانتشر رجال الأمن وكافة العاملين لخدمة الحجيج في كل الطرقات، يساعدون هذا ويأخذون بيد تلك، يقدمون الماء لمن يحتاجه، ويوزعون الطعام للراغبين، تسبقهم ابتساماتهم وكلماتهم الطيبة. لذلك انصرف الجميع للدعاء وطلب العفو والمغفرة، ومما زاد من روعة المشهد الذي نقلته جميع الفضائيات العالمية أنهم كانوا يمارسون هذا العمل الكبير في رابعة النهار، وتحت أشعة الشمس الحارة، بدون كلل ولا ملل.

هذا الأسلوب الإنساني الراقي في التعامل يعطي صورة واضحة عن طبيعة الإنسان السعودي، ويؤكد من جديد مدى الحرص الذي تبديه القيادة على استمرار مسيرة التميز في تنظيم الفريضة، بحيث لا يكاد يمر عام دون أن تشهد المشاعر المقدسة أو الحرمين الشريفين إضافات وتحسينات معتبرة تسهم في تيسير أداء المناسك، وهو ما دأب ضيوف الرحمن على الإشادة به. فهذه الجهود المتواصلة تؤكد استحقاق المملكة للمكانة المرموقة التي تحتلها في وجدان المسلمين وأفئدتهم.

إن كان من فوائد لانتشار الفيروس على الإدارات القائمة على أمر الحج فهي أنه أضاف أبعادا جديدة إلى التجربة السعودية المتميزة في إدارة الحشود، وهي تجربة ثرة وغنية سوف تزيد مقدرات وخبرات العاملين في تلك الإدارات، وتجعلهم أكثر دراية بالتعامل مع حالات الطوارئ.

ومرة أخرى تعالت أصوات ضيوف الرحمن وهم يرددون التلبية في المشاعر المقدسة في أيام مباركة أكدت أن أمة الإسلام بألف خير، وأن هذه البلاد التي شهدت نزول الوحي واحتضنت الحرمين الشريفين لن تنالها أيدي أعدائها بسوء، ولن تعرف غير التقدم والرفعة، نظير ما يبذله قادتها وشعبها من جهود جبارة لخدمة عُمَّار البيت الحرام وزوار المسجد النبوي الشريف.

التهنئة أسوقها في هذه المناسبة إلى مقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله – وإلى الشعب السعودي النبيل وعموم العرب والمسلمين في جميع أنحاء الأرض بعيد الأضحى المبارك، سائلاً الله أن يعيده أعوامًا عديدة ومديدة وبلاد الإسلام ترفل في ثياب العز والرفعة .