التسامح المجتمعي

 

يحيى الناعبي

 

في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، كنتُ حينها في الصفوف الابتدائية المُتأخرة، وكنّا نقضي بعضًا من إجازة المدارس- سواء في منتصف العام الدراسي أو عطلة الصيف- في سمائل الفيحاء وتحديداً قرية "القرواشية"، في منزل عم والدي الشيخ علي بن حمد الناعبي.

أستطيعُ أن أدعي أن تأسيسي المعرفي وحب الاطلاع تشكَّل في تلك المرحلة المُبكرة عندما يلتقي الشيخان الجليلان حمد بن عبيد السليمي وصديقه الشيخ علي بن حمد (شيوخ علم وليس مال) في مجلس بيته الذي يحمل دفء للحضور في تواضعه وبساطته. كانا ينادياني لأقرأ لهما صفحات من كتاب يختارانه، وبعد أن يوقفاني عن القراءة عند مرحلة ما، يبدآن في مُناقشة ما قمت بقراءته، ويتدارسان العلوم الفقهية والنحوية وذكر الأمثلة وسرد الوقائع. كانا يُخيراني بين البقاء أو الذهاب لأكمل اللعب مع بقية الأطفال، مرات عديدة بقيت استمع لذلك النقاش الخالي من الحدة والتعصب. غالبًا ما يتم ذلك بحضور أفراد القرية بأعمار مختلفة وكانوا بين مستمعين لنهل المعرفة وبين مشاركين في تلك النقاشات.

من الأمثلة التي يتجادل حولها الحضور بعض التغييرات التي كانت تطرأ على المجتمع آنذاك، وكان الحوار حولها بحرفية وعقلانية وتسامح، لم يكن هناك تعصب وتشدّد ولم نسمع مصطلح "تكفير"؛ بل كان مناداة للتفكير في القضايا. لقد تعلمنا من ذلك التسامح ما يُؤهلنا للتعايش واحترام الرأي الآخر في أي مكان.

تلك المقدمة تعبيرٌ عن أحوال مجتمعنا سابقاً وكيف كان الناس ببساطة الحياة بسطاء في جدالهم واختلافهم بالرغم من عمق القضايا المتزامنة مع واقع المجتمع آنذاك. كانوا يواكبون التغيير التدريجي بشيء من الحذر والنصح للظواهر وكانت تأتي ثمارها في المجتمع. كانت الأسئلة مفتوحة والإجابة حاضرة دون تجريم وتكفير؛ بل اجتهاد نحو خلق توازن بنّاء. كانوا يؤمنون بتغير مُعطيات الواقع ويجب أن يكون معالجة الجوانب السلبية بشيء من التوازن. لم تكن هناك فجوة بين العلم والدين والمجتمع لأن مجالسهم وقلوبهم مفتوحة لبعضهم البعض في النقاش "الإيمان بالشيء هو بداية العلاج".

الشاهد حول ما يدور مؤخرا من اختلاف آيديولوجي سبّبَ فجوة كبيرة بين أفراد المجتمع بمختلف تطلعاتهم وآرائهم، وبالرغم من وجود الوسائل الكثيرة لإتاحة فرص التقارب في طرح القضايا وتقريب وجهات النظر للوصول إلى الحلول الناجعة، فيما يبدو أنَّه لا يوجد استغلال جيِّد في سد هذه الفجوة بالحوار والنقاش الإيجابي؛ بل تغلب عليه استغلال السلطة التي يتمتع بها البعض سلباً في تمرير الكراهية والحقد (ليس شرطاً أن تكون السلطة سياسية؛ بل قد تكون إليكترونية تتمثل في تجييش المتابعين على منصات وسائل التواصل الاجتماعي ضد أشخاص أو ظواهر معينة، وتبدأ الشخصنة والقذف والتشهير).

إنَّ المبدأ السائد في المجتمع يتمحور في اتجاهين متضادين، أن تكون معي أو أنك ضدي. وهذا الأسلوب لم يعد يحتمل المرحلة الحالية المليئة بالتناقضات بسبب إشكالات كثيرة معرفية، اجتماعية، ومادية خلقت حالة من عدم الاستقرار المعيشي لدى الأفراد. خصوصًا مع غياب الأدوات المعرفية لدى الغالبية وتغلب الجانب العاطفي في التضامن والتبعية المطلقة مع فريق ضد آخر حتى وإن كان الأخير غير كفء أو أنه يغلّب مصلحته الشخصية. لم يعد المجتمع متسامحًا ومتصالحاً وغياب الجرأة على النقاش الحر، مع غياب الآليات البناءة في توفير المجال في الطرح المفتوح (إلّا ما ندر)، وذلك خشية عداء الطرف الآخر المتعارض، لهذا السبب لم يجرؤ الكثير على طرح قضايا موجودة من أجل معالجتها وبالتالي تفاقمت واتسعت رقعتها ومثّلت ظواهر مجتمعية.

إن فرض الرأي لم يكن ذات يوم مقبولًا، وإن ما توصلت إليه الأمم الآن هو نتاج الفكر الحر ولا يعني ذلك بالضرورة المناداة بما يسمى الأفكار الغريبة والناشزة. لكن طالما تم طرحها يعني أن هناك تساؤل ويعني أن تخصص له أهمية ومساحة للمناقشة دون تعصّب. لأننا بذلك إما أن نكون مقلدين تمامًا للماضي الذي يناقض واقعنا، أو أن نقلّد ما يفعله الآخر على هذا الكوكب، وفي كلتا الحالتين فنحن مقلّدين. والسؤال هو: لماذا لا تكون لنا ثقافتنا الحاضرة بأسلوب معرفي جريء ونناقش قضايانا ومعطياتها بما يتناسب وحالتنا الثقافية الاجتماعية، وتغليب الفكر على التعصب؟

بحيث لا نحكم على الكتاب من صورة الغلاف.