د. صالح الفهدي
حين يعمل الموظف في شركة فإنِّه يمثِّلُ ثقافة تلك الشركة، أمَّا حين يعملُ في حكومةٍ فإنَّهُ يمثِّل ثقافة شعبٍ، وأخلاقُ أمَّة. ومهما تكن من طبائعٍ أو أخلاقٍ يكونُ عليها الموظف في أيِّ مرتبةٍ كانَ فإنَّه يجبُ أن ينسجم مع الثقافة العامَّة التي اتَّصفَ بها المجتمع، ذلك لأن الحكومة تمثِّلُ الشَّعب بأخلاقياته التي اتَّصفَ بها.
فالموظف الحكومي مسؤول في قضية أخلاق أمَّته عمّا يصدرُ عنه من قولٍ وفعل، لأن ذلك سيصبُّ في السمعةِ العامَّة، وسيكون له مردوده النفسي والأخلاقي ليس عليه وحسب بل وعلى جميع المواطنين.
وإذا كانتَ لنا أخلاقنا التي نعتزُّ بها فإننا نطمحُ أن نراها تتجلَّى في كلِّ مواطنٍ في أيِّ موقعٍ كان، لأننا نعتبرُ ذلك رصيداً لنا؛ لهذا فإنَّنا نباهي بأخلاق أيٍّ منا داخل البلاد أو خارجها حين نجده وقد مثَّلنا بأَخلاقه خير تمثيل، ونتبرأُ ممن لا يمثِّل أخلاقنا إن صدرت منه مواقف أو سلوكات لا ترتقي إلى مستوى الأخلاقيات التي نشأنا عليها وأصبحت عُرفاً نرتضيهِ بيننا.
الموظَّف الحكومي عليه واجب فرض أن يتحلَّى بالأخلاق التي يرتضياها المجتمع، ولا يحيد عنها لطبعٍ فيه غير مستقيم، أو لخليقةٍ فيه لا تسر، لأنَّه موكَّلٌ بأمانةِ خدمةِ الناس، ومن تولَّى هذه الأمانة فإنه عليه واجباً لازماً وليس اختياراً أن يكون على قدرها، ليؤدي أمانته بإخلاصٍ وتفانٍ.
إن كان الموظف الحكومي على قدرٍ عالٍ من الأخلاق في تعامله مع الآخرين، انعكس تعامله على الجهة التي ينتمي إليها، وإلى الجهاز الحكومي بأسره، يحدِّثني أحد طالبي خدمة من إحدى الجهات، يقول: توجَّهتُ إلى الجهة الفلانية فإذا بالموظف يسعى إليَّ مُسرعاً، وقد بشَّ وجهه، متبسِّماً، طلقَ المُحيَّا، يعرضُ عليَّ خدمته ومساعدته، فظننت أنه يعرفني، ولكنني رأيته يعامل الآخرين بالأسلوب الراقي نفسه.
وعلى عكسه، يقول آخر: ذهبت إلى الجهة الفلانية فلم يلتفتْ إليَّ الموظف، ولم يُبدَ أيَّ اهتمام، ووضحت عليه إشارات الفوقية، والتعالي، وهو يلفظ بالكلمة من أطرافِ لسانه، ثم ذهبت إلى زميله فإذا هو على نفس طبعه، فأشعرني بأنني أستجدي منهم خدمةً عُيِّنوا في وظائفهم لقضائها، لكنهم بدلَ أن يضعوا ذلك في حسبانهم، وضعوا تنطُّعهم وكبريائهم وتمنُّنهم على الناس.
الموظف الحكومي عليه واجب التعامل الحسن مع الناس، لأن التعامل الحسن هو مفتاحُ كل تعامل، وبابُ قضاء كل حاجة، وإن الموظف البشوش، صاحب الترحاب الطيب، والطبع اللَّين السهل ليترك في نفسك أثراً طيباً وإن لم تُقضَ حاجة قاصده، لأيِّ سبب من الأسباب. وإن الموظف المتجهم المتعالي على الناس بأسلوبه ليترك في النفس أثراً قبيحاً يرتبطُ به وبالجهة التي ينتمي إليها، وبه ينالان الذكر السيئ.
لقد أصبح تعامل الموظف الحكومي مع طالبي الخدمة قضية شائكة، فالبيروقراطية أنشأت ثقافة عويصة عقَّدت هذا التعامل، وكوَّنت أخلاقيات غير سليمة لدى فئةٍ من موظفي الجهاز الحكومي ووجدوا عذراً فيها لتأخير وإبطاء وتسويف المصالح.
ومن هنا يكون رئيس المؤسسة الحكومية مسؤولاً عن الثقافة التنظيمية التي تتأسس عليها أخلاقيات الوظيفة، ولا شك بأنَّ أسلوب التعامل في أيَّة جهة يعكسُ الثقافة التنظيمية السائدة في تلك الجهة والتي تقع مسؤوليتها على الرئيس من منطلق (كلُّكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته)، يقول أحد المسؤولين السابقين: "هذه الثقافة يجب غرسها في نفوس المنتمين لأجهزة الخدمة المدنيّة، وإدارات المؤسسات العامّة والخاصة، لتصبح منهاج عمل، وطريقة حياة، ومسلكاً لهم في التّعامل مع الجمهور. لا بدّ من تنمية الشخصيّة الإيجابية القادرة على إيجاد الحلول والمخارج القانونية لما يواجه الناس من معضلات مع الأجهزة الرسمية وأشباهها".
وإنني لأشيد بالجهات التي وضعت أصحاب الخلق الرفيع في الصفوف الأُولى لخدمة طالبي الخدمات، فقد صنعوا خيراً للناس ولسمعتهم، فلم يُثنِ الناس على الموظفين وحسب بل وأثنوا على الجهات أيضاً.
خلاصة الحديث.. إن أخلاق الموظف الحكومي تمثِّل أخلاق الشعب، ولا تمثِّل أخلاق الفرد الموظف ومن هنا كان واجباً لازماً على كلِّ موظف حكومي أن يكون أُنموذجاً مثالياً يجسِّد أخلاقيات الثقافة الرفيعة التي نشأ عليها المجتمع، وتربت عليها أجياله، والحكومةُ مسؤولة عن تعزيز هذه الأخلاقيات، بل فرضها حتى تصبح أساساً مقدَّماً على كلِّ الأُسس الأُخرى.