صادق جواد.. فيلسوف عماني ارتدى عباءة الدبلوماسي

 

ناصر أبو عون

 

لم ألتقِ الرجل إلا سويعات قليلة ومرات عديدة على أصابع اليد الواحدة؛ كان اللقاء على وجل من رؤى الرجل الفلسفية، واجتراحاته الفكرية التي تتقاطع مع العديد من النظريات الفكرية وبعض السياسات العربية التي تذهب بعيداً في تعاطيها مع الواقع.

صادق جواد رجل عركته الأفكار، وصاغ تجربته الإنسانية، ورؤاه الفكرية على نار هادئة؛ كان عُمانيا قلبا وقالبا؛ يقلب صفحات التاريخ، ولا يركن في زواياه إلى السطور المضيئة متحزبا أو منحازا؛ بل ناقدا مستخلصا للعبر، وحاملا مصباحه المنير إلى المستقبل، ومتنقلا بين خارطة العالم الثقافية، لم تحاصره الجغرافيا، ولم تعوقه الصراعات الطائفية شرقا وغربا، يغوص في بحر "الوطنية والمواطنة" ليستخرج الدرر الكامنة.

كان صادق جواد في جميع كتاباته، وحواراته، ونقاشاته الفكرية واقعيا، لا براجماتيا، ولا نخبويا؛ فأعرض بوجهه عن كثير من الأفكار التي ركبها السياسيون الغربيون قبل الشرقيين بغية تحقيق غايات بعيدة المدى، وكان في صدارتها رفضه المطلق لمصطلح "حوار الأديان"، لأنه ينطوي على رؤية هلامية، وجسد بلا روح، وفكرة طوباوية ليس لها أقدام تسعى بها بين الناس؛ وليست سوى محض سراب، وأن مصطلح "حوار الحضارات" هو الفكرة الجديرة بالنقاش والسير وراءها إلى النهاية، وهو عمود الخيمة الذي تستند إليه جميع التيارات والأفكار.

وفي الوقت الذي تطالب فيه التيارات المدنيّة من المحيط إلى الخليج، وأدعياء الحداثة بـ"الحرية"، ومحاولة توطينها كـ"مبدأ" داخل "الدساتير"، وإقرارها في "منظومة اللوائح والقوانين" رفضها صادق جواد جملةً وتفصيلا؛ لأنها في حقيقتها وبنيتها الفلسفية (ليست مطلقة)؛ فالمبادئ لا تكون مُقيَّدة، والأجدى استبدلها بمصطلح "الحرية المسؤولة".

ولأن صادق جواد يحمل بين جنبيه قلب مفكر، وفي دماغه عقل فيلسوف، وفي يده مصباح التنوير؛ فقد كان متصالحا مع ذاته، ومتصادما مع بعض الرؤى الفكرية، وهذه التركيبة الشخصية لم تثنِه عن السير بعيدا حد الاصطدام مع البعض خاصةً بعد إعلانه عن الفروقات الشاسعة بين "الأحكام"، و"المبادئ" العامة داخل السياق القرآني. فمن وجهة نظره يرى صادق جواد أنّ الأحكام- وإن نصَّ عليها القرآن- فما هي إلا ظرفية، بينما المبادئ العامة التي جاء بها القرآن ثابتة التي لا تتغير بتغيّر الزمان والمكان.

وفي الأخير رحل صادق جواد وفي حلقه غصة؛ جراء تراجع الفكر العربي؛ مؤكدا أننا نعيش عصر انحطاط حضاريّ حيث بتنا أمة مستهلكة للأفكار والمنتجات، وأنّ العربي صار في وضع المتلقي؛ يأخذ ولا يعطي، يستهلك ولا ينتج، ينبهر ولا يُبهر، يجتر ما تُلقي به الحضارة الغربية في حجره مصادفةً لا سعيا، مضطرا لا مختارا، في عصر صارت النخبة نكبة، والحداثة أضحت تقليعة يتزيَّا بها أدعياء الثقافة والمُثاقفة، يعيشون في أبراج عاجية؛ فلا هم هبطوا على درجات العقل إلى واقع الحياة، ولا انكبوا على الدرس والبحث عن أدوية ناجعة لأمراض الأمة، ولا هم أنتجوا نظريات فكرية نابعة من بيئاتنا وتراثنا وتأخذ بيدنا إلى المستقبل، ولم يكفوا عن لطم الخدود وشق الجيوب وإلقاء اللائمة على السياسات والحكومات رافعين ألوية الحريات المهترئة هنا وهناك.