من ذكريات 23 يوليو 1970.. نهضة وبانيها (4- 4)

 

خالد بن سعد الشنفري

 

كل ذلك كان بتوجيهات سامية مُباشرة وفورية من السُّلطان قابوس ـ، لاشيء تنظيري، أعمال تتحدث عن نفسها على الواقع، كان يقدم أفكاره على شكل مشاريع كانت صغيرة ومُتواضعة في البداية لكن المواطن جنى ثمارها فوراً وتوسعت وكبرت مع الأيام، لقد قدَّم الأعمال على التنظير الذي قد سئم المواطن من انتظار تنفيذه طويلاً.

 تلت المساجد المنازل في الإنارة، منطقة تلي منطقة، وانشأت الإدارات الخدمية؛ لتقديم الخدمات للمواطن وأدخلت خدمات الهاتف الأرضي.

كل هذه الخدمات التي قدمت لإشباع حاجات المواطن العصرية الأساسية سريعًا كانت بالتزامن مع نشر المكتبات التثقيفية العامة الصغيرة للقراءة بالأحياء السكنية التي زودت بأعداد من الكتب والمجلات الرصينة، كانت بالنسبة لنا نحن الناشئة والشباب المتعطش للمعرفة التي كان محروماً منها تماماً، منابر إشعاع فكري وباب انفتاح على المعلومة والثقافة والفكر، كما كان للسينما المتنقلة التي تعرض بين الفينة والأخرى في ساحات وميادين صلالة والمناطق التابعة لها أيضاً دور فعَّال في ذلك، كنا نترقب بشغف يوم العرض المحدد في أيِّ ساحة في أي منطقة كانت تعرض فيها هذه الأفلام التوعوية والتثقيفية التي فتحت علينا كصغار وشباب آفاقاً على العالم من حولنا والأمل بوصول بلدنا الحبيبة عُمان إلى ذلك بقيادة سلطان التغيير.

كل هذه الخطوات والمشاريع الأساسية وغيرها، توالت وتواصلت وبوتيرة سريعة وعالية حتى أصبح الجديد الذي نصحو عليه في كل يوم سمة تلك المرحلة بجدارة.

أصبحت المنجزات معجزات في غضون العقد الأول للنهضة المباركة، شوارع رئيسية وأساسية ومطارات ومدارس رادارات خدمية بلدية وإسكان وأراضٍ، أغلق سوق الحصن بعد إنشاء أول سوق تجاري بصلالة ووزع بالمجان على تجار سوق الحصن الذي كان بالإيجار ونعم الناس بمسلتزمات الحياة العصرية الكريمة وفي زمن قياسي غير مسبوق.

وكان هذا هو الحال الذي ينطبق وبالتساوي على كل مدينة رئيسية في عمان كلها حتى شملت الجميع.

قابوس القبس الاسم على مسمى لم يشيد ويبني عمان الأرض والبنيان بوتيرة لم يسبق لها مثيل في عصرنا الحالي، ومن لاشيء لكل شيء، وخلال عقد واحد من الزمن بل أنار الأفئدة والعقول ومحى جهلها وروى الأبدان وطبب سقمها وأنار الأبصار وفتح القرائح.

 

على مدى عقد السبعينات، وحتى ابتعثت مع بقية أقراني إلى الدراسات الجامعية في مختلف دول العالم، كان السلطان قابوس - طيب الله ثراه- يُدير البلاد تارة من مسقط وتارة من صلالة حيث كان الصراع مع من تخلف من بقايا جبهة تحرير عُمان والخليج العربي على أشده في جبال ظفار بعد توغل الأفكار الشيوعية الماركسية في أوساط قياداتها ودعم الجارة عدن وحزبها الاشتراكي الحاكم (آخر معاقل الشيوعية في العالم العربي) كنَّا في الداخل ننهل من منابع الشريعة الإسلامية السمحاء ونلتهم الفكر والثقافة والمعلومة والرأي، والرأي الآخر ونفعل العقل في كل ذلك.

لم يكن صراع السلطان قابوس، المحب لبلده وشعبه، وأول الثائرين فيها حين كانت تستدعي الثورة، فقد كان أول الثائرين على الظلم الذي كان ينخر في جسد هذا الشعب وخطط وعمل على إزالته ورفعه عن كاهل شعبه وكل ذلك في صمت.

إنَّ الكلمات السامية لجلالته في تلك المرحلة والتي حفظناها عن ظهر قلب تظهر ما واجه جلالته من معوقات لهذه النهضة المباركة التي ينهل من معينها أبناؤنا وأحفادنا اليوم وهذه أكبر أمنيات كل أب ورب أسرة :-

° "سنبني عُمان بيد وبالأخري نحمل السلاح"

° "إن الشيوعية العالمية التي أصيبت في كبريائها، وحُد من غلوها، تعتبر عمان اليوم الرمح الذي طعنها في الصميم".

° "إننا شعب يعمل بصمت، يبني بلده بعزم وإصرار".

كان جلالته بنفسه مع جنوده البواسل ورجال الفرق الوطنية الشجاعة يُدير تلك المرحلة بشقيها: بناء الوطن والذود عنه بمنتهى الاقتدار والوثوق بالله، ويقود تلك المعارك أحياناً، فقد شارك بنفسه في بعض هذه المعارك، كتحرير مدينة الحق في جبل طاقة، توالى بعدها تحرير كافة مناطق جبال ظفار وصولاً إلى ضلكوت الحدودية مع اليمن الجنوبية سابقاً حتى أعلن رسميا انتهاء الصراع في ظفار ذلك الجزء الجنوبي الغالي من عُمان في العام 1975م.

لم تكن الطريق ممهدة وميسرة، ولكن العزيمة كانت أقوى لدى السلطان قابوس، الصراع في بلدنا أصبح عالمياً، ويدار على أرضنا بين قطبي العالم آنذاك، الحرب الباردة كانت لاتزال في أوجّها، وتمحورت وتمركزت بعض إفرازاتها لدينا واكتوينا بنار ذلك وأصبحت تنغص مسيرتنا الظافرة ونهضتنا المباركة، لكنها الحكمة القابوسية التي قيضها الله وقدرها لنا، فخرجنا منها تماماً بعد خمس سنوات غانمين ونحن أقوى وأشد بالنصرين، نصر منجزاتنا العصرية التي تحققت واكتسبناها خلال تلك السنوات الخمس على أرضنا ووحدة شعبنا العماني في الداخل الذى كان شتاتا، وهذه الوحدة الوطنية العمانية التي تحققت بنجاح باهر على يديه، والتي لو لم يكن للسلطان قابوس من فخر إلا هذه، لكفته فخراً.

خمس سنوات فقط زمن لايقاس به تطور الدول وإنجازاتها، إلا أن قابوس بنى لعُمان قاعدة بنيوية حضارية راسخة ودافع عن بلده ومقدراتها وإرثها الإسلامي والحضاري، وعالج وطبب وأنار عقول شعبها.

عاد بعدها كل من بالخارج إلى الداخل _ كل هذا نحسبه من عظمة هذا الشعب _، وتفرغنا جميعاً كعمانين نواصل الانطلاقة كوحدة ولحمة واحدة، لم يعد بيننا من ينغصها علينا، أو من خارجنا يجدها ذريعة للعمل على تشتيتنا وإعاقة نهضتنا المباركة بإذن الله.

منظر موكب جلالته وهو يقود سيارته بنفسه في مقدمة الموكب أصبح مألوفاً للمواطنين يقابلونه في مختلف المناطق والأحياء في أوقات الليل والنهار.

 كان يستوقفه أي منظر يرى فيه شذوذا أو تعارضا مع الذوق العام نتيجة؛ لتسارع الإنجازات الحديثة من مشاريع وخدمات شبه يومي وبوتيرة متسارعة فيأمر بتعديله وتغييره، حتى اللوحات والمسميات التجارية إذا لاحظ نشازا في مسمى أو تصميم يأمر بالتعديل أو التغيير، كان ذلك في السنوات الأولى للنهضة وقبل أن تكتمل الإدارات الحكومية المختصة بالتنظيم والإشراف على ذلك، حتى مسميات المناطق والأحياء الجديدة يعطيها أسماء في غاية الروعة والإبداع والدلالة، كان معلماً وقدوة في كل شيء وانعكس ذلك كله إيجاباً على المواطنين عموماً، والشباب، خاصة الذين كان يحرص أشد الحرص على توجيههم؛ لتنشئتهم التنشئة الصحيحة والصالحة لإيقانه بأنهم مستقبل عُمان، لم يكن قائداً لتغيير واقع فقط؛ بل مستشرفاً لمستقبل وهذه صفات القادة الزعماء.

أحيانا كان يذهب بدون موكب؛ ليطلع عن كثب وليطمئن على سير خطوات هذه النهضة الناشئة منذ بدايتها بنفسه، كان يشاهد مرات عديدة بعد منتصف الليل في سيارة عادية خاصة وبدون موكب لمعاينة موقع ما للتخطيط له، وقد شوهد أيضاً يقود سيارة تاكسي ملثماً يخفي وجهه بالمصر يتوقف لفئة مُعينة من المواطنين، شخص مسن أو أسرة بسيطة؛ ليوصلهم إلى المكان الذي يريدون التوجه إليه ويستغل ذلك في الحديث معهم ببساطة، فقد كان يتحدث بالدارجة الظفارية القحة والجبالية بطلاقة كما يتحدث بلهجة شمال عُمان ليتعرف منهم مباشرة وعن كثب عن أوضاعهم المعيشية وأحوالهم ورأيهم في الخدمات التي تقدمها الحكومة، كان يعيش كل أحوال المواطنين وكأنه واحد منهم؛ ليطلع بنفسه ولكي لا ينقل له مسؤول صورة ليست حقيقية ومطابقة لواقع المواطنين، كان يعرف معظم المواطنين بأسمائهم الشخصية أو عائلاتهم أو قبيلتهم، فقد كان يرافقه دائمًا في سيارته بعض كبار السن ممن يعرفون الناس ويسألهم عن ذلك، كان في غنى عن كل ذلك إلا أنه جبل عليه.

 كانت زياراته غير المرتبة مسبقاً إلى الإدارات الحكومية التي تأسست حديثاً، المدارس المستشفيات، الإدارات الحكومية الأخرى، إلى الطلبة في فصولهم والمرضى على أسّرتهم، يأمر هنا بجديد ويوجه هناك، ويعلم ويربي هنا هناك، زيارات مفاجئه إلى الأسواق والاستماع لكل من لديه شكوى عن الأسعار والاستماع لكل من لديه شكوى أو مظلمة وكأنه في سباق مع الزمن؛ ليوفي بوعده لشعبه: "سأعمل بأقصى جهد وسرعة ممكنة لجعل عمان في مصاف دول العالم المتقدمة " ووعده لهم بالرخاء والعيش الكريم.

استوقف موكبه في أحد المرات أحد المواطنين وكان ذلك في الشارع المُقابل لبيتنا، اغتنم أحد جيراننا الفرصة فتقدم ناحية سيارته وسلَّم عليه ووقف خلف الشخص الذي كان يتحاور معه جلالة السلطان منتظراً لدوره في السلام والحديث مع جلالته، كان جارنا هذا نحيل البنية وقد خرج من بيته حافياً على استعجال وكان أسفلت الشارع شديد السخونة وأخذ هذا يرفع أحد رجليه إلى أعلى كل مرة؛ ليقيها لدغة الحرارة، فسأله السلطان: ماذابك؟ أجابه الأرض تحتي شديدة السخونة يامولاي.

ابتسم السلطان وأومأ لأحد حراسه المرافقين؛ ليتقدم ويضع حذاءه تحت أرجل جارنا حتى فرغ من عرض مطالبه.

تشرفت شخصياً بلقاء جلالته كغيري من المواطنين مرات عديدة، نسلم عليه ونهنئه بعد صلاة كل عيد يقضيه بيننا وطوال مدد إقامته في صلالة لإدارة البلاد من هنا، وأتذكر عندما زار جلالته جمهورية مصر العربية أثناء دراستي الجامعية هناك في مطلع الثمانينات، شرفنا كعادته في أي زيارة خارجية يقوم بها لزيارة أي بلد يدرس به طلبة عمانيين للسلام عليه، تم نقلنا جميعاً رغم كبر عددنا آنذاك إلى مقر إقامة جلالته بقصر القبة بالقاهرة، كنَّا أكثر من ألف طالب وطالبة مبتعثين للدراسة هناك، سلمنا عليه مُصافحة فرداً فرداً، وأمر لنا بمكرمة منحة شهر دراسي لكل منِّا وهذا كان دأبه في أي بلد يزورها.

 من إحدى المواقف لي مع جلالته في صلالة، كنت أقود سيارتي مع زميل في شارع قابوس بمحاذاة سور البليد نتجاذب أطراف الحديث وكنت أسوق بسرعة منخفضة جداً لقلة عدد السيارات في الشارع حينها وكان الوقت قبيل الغروب، سمعت صوت بوق سيارة من خلفي حسبته في أول الأمر أحدا يريد التجاوز؛ فأومأت له بيدي اليسرى؛ ليتجاوز، لكنهُ لم يتجاوز ولم أنظر إلى المرآة حينها، تكرر صوت البوق واستمر الأمر على هذا المنوال عدة مرات ولم ألحظ أحداً يتجاوز، نظرت بعدها في المرآة الخلفية لأرى مقدمة سيارة بلوحة بدون أرقام نعرفها خلفي تماماً، تيقنت أنه السلطان فركنت سيارتي سريعاً إلى اليمين، أوقف جلالته سيارته ملاصقاً لسيارتي ونظر إليَّ قائلاً : ألا تعلم أن السياقة ببطء في شارع عام أخطر من السرعة ؟!

طلبت العفو من جلالته؛ فرفع يده مُسلماً وهو يقول: انتبه مرة أخرى.

كان السلطان والمربي والمعلم لنا، الأغرب من هذا وذاك كنَّا في إحدى الليالي شباب متجمعين على الشاطئ بين الحافة والدهاريز توجهت نحونا إحدى سيارات حراسة الموكب ونزل إلينا أحد جنود الحرس يسألنا: هل شاهدتم سيارة صاحب الجلالة تمر من هنا؟!!!

هكذا كان كما عهدناه القائد المتفقد لأحوال شعبه، ليس في جيلي من لم يُقابل أو يلتقي مرة بالسلطان قابوس كان يعيش وسط شعبه وبينهم ويعرف الكثير منهم باسمه أو باسم عائلته أو قبيلته.

كنا كشباب، غرتنا الطفرة والنقلة النوعية والسريعة على العالم، فلبس بعضنا البنطلون الضيق تقليداً وأطال البعض شعر رأسه، ولولا مُتابعة جلالته وردعه المُباشر لنا واستيقاف البعض منِّا وتوبيخه، وأحياناً العقاب لكنا اتخذنا مسلكاً آخر، فقد شاهدته مرة يأمر الحرس بحلق شعر طويل كالخنافس لأحد الشباب.

هكذا كانت بدايات النهضة وهكذا أسس السلطان الملهم قابوس بن سعيد بن تيمور آل سعيد القاعدة العريضة الصلبة للنهضة المباركة التي بني عليها تباعاً هذا المنجز العظيم لعمان الحديثة عمان النهضة.

وربط حاضرها المجيد بماضيها التليد على مدى خمسين عاماً.