النقاشات الفكرية بين الماضي وعصر "مساحات تويتر"

فايزة محمد

الحديث في أمر ما يجب أن يكون مبنيًا على دراية كافية ودراسة، تُمكِّن الشخص من طرح أفكاره ومناقشتها، خاصة إذا كانت الموضوعات التي يتم مناقشتها يدور حولها الكثير من الجدل، وهذا ما كان عليه العلماء والمفكرون والباحثون في القرون السابقة.

فمثلاً، في عام 1937 ألَّف الباحث المصري إسماعيل أدهم كتابا بعنوان "لماذا أنا مُلحد؟"، ردَّ فيه على كتاب بعنوان "عقيدة الألوهية" لأحمد زكي أبو شادي الذي نشر عام 1936، والذي قام بدوره بالرد على كتاب إسماعيل أدهم بكتاب آخر بعنوان "لماذا أنا مؤمن؟"، ثم قام العالم المصري المعروف محمد فريد وجدي بالرد أيضًا على كتاب إسماعيل أدهم بكتاب بعنوان "لماذا هو ملحد؟".

ويذكر الفيلسوف المصري الراحل عبد الرحمن بدوي في كتابه "من تاريخ الإلحاد في الإسلام"، عددًا من الملحدين الذين اشتهروا في تاريخ الفكر الإسلامي، وكانت لهم مناظرات مع علماء الكلام المسلمين أمثال ابن المقفع وابن أبي العوجاء والراوندي وصالح بن عبد القدوس وبشار بن برد وغيرهم، وإلى جانب هؤلاء الذين عرفوا بالإلحاد في التاريخ الإسلامي هناك أيضاً فلاسفة وعلماء كلام أثاروا الكثير من الجدل في تلك الفترة، وكان بلاط الخلفاء يشهد العديد من المناظرات في المواضيع الجدلية المختلفة.

ومن يطالع كتاب "المقابسات" وكتاب "الإمتاع والمؤانسة" وكتبًا أخرى، سيعرف أن العلماء في العصور الماضية كانوا يقيمون مجالس النقاشات والمناظرات لكن بعيدا عن عامة النَّاس، وكان بعض الخلفاء كالمأمون العباسي يشجعون مثل هذه المناظرات ويحضرونها، ولكن الإشكالية حدثت عندما حاول بعض هؤلاء المنسوبين إلى الإلحاد التأثير في العامة وترويج أفكارهم لأنهم كانوا يرون أن ذلك يؤثر في عقائد الناس وسلامة المجتمع.

في تلك الفترات الزمنية لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي الموجودة اليوم متوفرة عندهم حتى ينتقل النقاش إلى العامة، ولم يكن هناك "تويتر" حتى تكون هناك "هاشتاجات" تؤيد أو تهاجم كتب الإلحاد، ولم تكن هناك مساحات حوارية حتى يدلي الجميع بدلوه من عالم أو باحث أو عامي، حيث كانت النقاشات محصورة ضمن دائرة ضيقة جداً من العلماء والباحثين المهتمين، ولذلك اقتصرت الردود على هذه الفئة فقط.

ولذلك أثرت هذه النقاشات والردود الفكرية المختلفة المكتبة الإسلامية بكثير من الكتب التي ناقشت القضايا الإيمانية من جوانبها المختلفة، ولم تتأثر العامة بهذه الكتب والردود لأنَّ الكتب كانت مقتصرة على فئة واحدة فقط وهي فئة العلماء والباحثين.

في الأسابيع الأخيرة سنحت لي الفرصة لمتابعة بعض المساحات الحوارية في "تويتر"، والتي حاولت جذب جمهور المتابعين بطرح قضايا حساسة لمناقشتها وتبادل وجهات النظر حولها ومنها الإلحاد والخطاب الديني، وللأسف الشديد فقد كانت الصدمة شديدة؛ إذ كنت أتوقع حوارا منهجياً ومنظماً يقوم على سرد الأدلة وعرض منطق الحجة والبرهان، وكنت أتوقع أنني سأقوم من خلال هذه المساحات برحلة معرفية في فضاء الأفكار المختلفة وأستمع إلى أدلة برهانية وعلمية وشرعية من أطراف الحوار.

لكن للأسف الشديد، فقد كانت معظم المناقشات لا علاقة لها بالمنهجية في الطرح ولا الاحترام المتبادل بين المتحاورين، وكان طابع التشتيت بين المواضيع هو السائد في معظم تلك المناقشات، فتجد أن العنوان في وادٍ والمناقشات بين المتابعين في وادٍ آخر، فتجد شخصًا لا يفرق بين نقد التراث وبين تجديد الخطاب الديني وبينهما وبين الإلحاد أو العلمانية، وأيضاً تجد العنوان عن مناقشة الإلحاد بينما النقاش يدور عن النسوية، واختلط الحابل بالنابل.

وبالتالي، كانت النتيجة كثيرًا من الغث وقليلًا من المفيد، والفائدة الوحيدة التي خرجت بها من مُتابعة هذه الحوارات هي معرفة أنَّ أصحابها لا يريدون -كما يدعون- "الوصول إلى الحقيقة" لأن الوصول إليها لا يكون عن طريق المساحات الحوارية في "تويتر" أو وسائل التواصل الاجتماعي التي هي أقرب إلى الفضفضة وتبادل الأخبار فقط وليست مصدرا للمعرفة؛ وإنما إثارة الجدل لأجل الجدل وجذب المتابعين، وكانت إدارة الحوارات في معظمها سيئة جدا ولا ترتقي إلى مواضيع النقاش.

من المؤسف أن هذه الحوارات استطاعت عبر العناوين الفضفاضة التي طرحتها جذب كثيرا من المتابعين الذين دفعهم الفضول للدخول في هذه المساحات لمعرفة ماذا يدور هناك، ولكنهم لم يجدوا شيئاً يستحق الذكر، وصدق الله الذي قال" {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: 17).