د. صالح الفهدي
حينَ قالت لي وكيلةُ إحدى الوزارات إنَّ هناك اتجاهاً لتسهيل الإجراءات في جانبٍ من جوانب الوزارة، اقترحتُ عليها أن تجمعَ جميع العاملين في المديرية العامة المعنيَّة فتؤكِّد لهم هذا الاتجاه، وتوصيهم بتسهيل الإجراءات، لأنني أُدركُ بأنَّ كثيراً من المسؤولين من الوزراء أو الوكلاء يعملون على تسهيل إجراءات العمل في وزارتهم ولكنَّ بعض موظفيهم– إن لم نقل أكثرهم- يسعون لتعقيدها.
يكفي للواحد أن يُراجعَ في موضوعٍ ما حتى يصطدم بالإجراءات المعقَّدة التي تواجهه، أو ببحث بعض الموظفين عن عراقيل تثنيه عن الموافقة على موضوعه، وقليلٌ ما يلمس السلاسة في الإجراءات، والسهولة في المعاملات..!
ولا شكَّ بأنَّ ذلك قد عطَّل وطناً بأسرهِ، وأخَّر أو أعاق أو وأد مشاريع لو كُتبَ لها أن تقوم لأسهمت في ازدهار التنمية، ورفد الحراك الإقتصادي، ولكن يبدو أن هناك إشكاليات في قيم العمل الحكومي لابد لها أن تُعالج، ومعالجة قيم العمل في الحكومة لابد أن تتم من أعلى جهات القرار، وهكذا فعل السلطان قابوس بن سعيد– رحمه الله– في عام 1978 حينما اجتمع بكبار مسؤولي الدولة فأكَّد لهم على قيم العمل الحكومي، ومن ذلك اللقاء خرجت عبارات لتزيِّن أروقة الوزارات ومنها " إن الوظيفة تكليف ومسؤولية قبل أن تكون نفوذآ أو سلطة."و" مصلحة الأمة قبل أب مصلحة شخصية"و "جميع المسؤولين خدم لشعب هذا الوطن العزيز"و"إن الوظيفة تكليف ومسؤولية قبل أن تكون نفوذآ أو سلطة"و"إن العدل أبو الوظيفة وحارسها، فتمسكوا به وعاملوا الجميع بمقتضاه" واللقاء مليء بمثلِ هذه القيم التي تأسَّست عليها الحكومة آنذاك وبقيت تشكِّلُ مصابيح تسيرُ على هُداها.
بيدَ أن ترسيخ قيم العمل الحكومي مثلها مثل غيرها من القيم يشوبها ما يضعفها ويبهتها أو يعطِّل فاعليتها على مدى الوقت وتغيُّر المسؤولين، مما يستلزمُ العمل على التأكيد عليها، ومراقبة العمل بها، والمحاسبة في حال تعطيلها.
ولا شكَّ بأنَّ الحاكم لا يستطيع أن يجتمع بصورة مستمرة بكبار رجال دولته للتأكيد على هذه القيم التي يُريد من حكومته أن تحرص عليها في عملها، غير أنه يمكنُ لمجلس الوزراء أن يعمل على مباشرة هذا الأمر، أو أن تكون هناك هيئة تابعةً للحاكم تعمل على تطبيقِ القيم التي يُريد لحكومته أن تمضي عليها، ولا تحيد عنها.
إن قيم العمل الحكومي ليست عباراتٍ تزيَّنُ بها أروقة أو مكاتب الوزارات، وإنَّما أسس العمل فيها، وأعمدة الإنجاز في واجباتها التي كُلِّفت بها من قِبل السلطة العُليا. قيم العمل الحكومي هي منارات تهدي موظفي الحكومة، واتجاهات تقودهم إلى الإنجازات المتوقعة منهم، والأساليب الفاعلة التي يمكنهم بها تحقيق طموحات الحكومة.
ومن هُنا فإنها يجب أن تستوعب من قِبل الوزير حتى أصغر موظَّفٍ فيها، ولقد شهدتُ بنفسي، حين كنتُ أمشي برفقة وزير البيئة والشؤون المناخية السابق في وزارته وكان يستوقف بعض الموظفين ليسألهم عن قيم العمل في الوزارة، ليقدِّم لي دليلاً على أنَّ الجميع قد حفظ هذه القيم، وكان ذلك الأمر مُلفتاً لي، ولا شكَّ عندي بأنَّ عملية الحفظ هي عمليةٌ أُولى لقيم العمل، تأتي بعدها عملياتُ الهضمِ والاستيعاب والترسُّخ والاقتناع والعمل البديهي وفقاً لمعطيات تلك القيم.
وحيثُ أنَّ كل موظف حكومي قد جاءَ من بيئةٍ معينةٍ ويحمل قيماً محدَّدة، فإنَّ قيم العمل الحكومي تعمل على تكوين ثقافة تنظيمية لديه قائمة على قيم مؤسسية دون أن تكون للقيم الفردية دوراً مؤثِّراً عليها، ذلك لأن القيم الفردية السلبية هي (السوسة) التي أضرَّت بالعمل الحكومي إذ أنها تنخرُ كيان القيم المؤسسية.
إن قيم العمل الحكومي تهدفُ إلى التخلُّص من البيروقراطية التي لازالت تضربُ بعروقها في جسد العمل الحكومي، فتعيق حراكه، وتعطِّل سيره، وتهدف إلى تغيير عقليات الكثير من الموظفين الذين يتعاملون بفوقية مع المراجع، ويحاولون إعاقته بشتى الطرق، وتهدف إلى تغيير الثقافة التنظيمية في المؤسسات الحكومية لتكون سلسة في تعاملها مع البشر والقوانين والإجراءات، وتهدف إلى عصرنة العمل الحكومي ليتوائم مع أساليب عمل الدول المتقدمة في تقديم الخدمات الحكومية.
وهذا كلُّه لن يتم إلاَّ بقرارٍ يصدرُ من السلطة العليا للحكومة من أجل إحداث تغيير شامل في منظومة العمل، وضمان وجود قيم قادرة على ترشيق العمل الحكومي، وتغيير عقليات العاملين فيها. قرارٌ حازمٌ وواضحٌ سيغيِّر البوصلة نحو الاتجاه الصحيح، وسيكون له نتائجه الحميد على التنمية بصورة واضحة في مختلف الصُّعد والمسارات.