كنت هناك.. ما رأيته وعايشته وسمعته وقرأته

د. بدر الشيدي

على نهج كثير من الدبلوماسيين الذين كتبوا ما عاشوه في رحلة عملهم الدبلوماسية، مثل غازي القصيبي، نزار قباني وعمر أبو ريشة وغيرهم، يخوض الدبلوماسي الدكتور قاسم الصالحي أول سفير للسلطنة في ليبيا، والسفير الحالي في تركيا تلك التجربة ويبرز ذلك من خلال كتابه "كنت هناك.. ما رأيته وعايشته وسمعته وقرأته".

الكتابة قد تختلف ظروفها، وقد يتغير دافعها، لكن لدى الدكتور قاسم الصالحي هي وليدة إحساس ونوازع وصراع مع النفس، لذلك يكمن الصدق والإبداع في تلك المعاناة والصراعات الداخلية، وكانت هي المحفز والدافع للبوح بما خالج النفس وباح به القلب، هي أدوات تمكن من خلالها الكاتب أن يشحذ الهمم وينشط الذاكرة ويجمع الأفكار ويربط الأحداث كما ذكر، ليسقطها لاحقًا على المكان والزمان الذي عاش فيه في مدينة أثيرية هي طرابلس الغرب.

وقد يبدو أن الكاتب استعمل ذكرياته واستطاع أن يستعيد ما شاهده وسمعه وأحس به. جاء ذلك من خلال ما عبَّر عنه بأن عاصفة مشوهة كانت تشده شداً إلى هناك، مستخدمًا في ذلك تصويرا بلاغيا غاية في الإتقان، وقد شبه نفسه بالعاشق والمكان وكأنه معشوقة متلهف لزيارتها محمولاً بولع وألم. ما يشد الانتباه أيضاً تلك الكاميرا الخفية التي استخدمها الكاتب للالتقاط بعدستها ما يدور حوله من تفاصيل دقيقة قد لا يلاحظها العابر العادي، مما يجعل القارئ وكأنه يشاهد فلما تصويرياً لا ينفك من تتبعه حتى النهاية. 

يقدم الدكتور قاسم الصالحي في كتابه نموذجا فريدا للعمل الدبلوماسي على الصعيد الوطني إذ هو الأديب والمراقب والمثقف. كنت هناك تجربة قد تكون في أدب الرحلات إذا ما اعتبرناها تتكلم عن رحلة الدبلوماسي إلى ليبيا خلال فترة عمله هناك. رغم أنه لم يصنف كتابته هذه ضمن السيرة الذاتية أو أدب الرحلات أو كتاباً نقدياً أو تبجيلا ومدحاً، ولا هو بحث أكاديمي ولا سرد للتاريخ، هو ببساطة كما وصفه هو خليط من ذا وذاك، وهي بالفعل تقارب السيرة الذاتية رغم محدودية الزمان والمكان الذي يتحدث عنه، وتقارب أدب الرحلات لوصفه الأشياء والمكان والبشر هناك، وهي تقترب من السرد القصصي الروائي، وقد تكون دروسًا في فن الدبلوماسية التي يستسقي جذورها من دبلوماسية عُمانية راسخة بقواعدها وثوابتها، ضاربة جذورها في أعماق التاريخ.

رغم أن الكتاب مليء بالأحداث والأسماء والوقائع الشيقة، إلا أن نقطة الذروة تكمن في الأحداث التي عاشها الكاتب إبان انطلاق ثورات الربيع العربي عام 2011م. وبعين مراقب للأحداث مُحايد استطاع أن يصف التحولات العميقة التي عاشها المجتمع الليبي في تلك الفترة وبعدها. رغم أن الكتاب صغير الحجم 150 صفحة إلا أنه يقدم للقارئ معلومات وافية ومحايدة عن ليبيا الشعب والأرض، وثورة الشعب الليبي، كل ذلك من خلال ما شاهده وعايشه وسمعه وقرأه. 

وقد يبدو من الوهلة الأولى أنّ الكاتب ليس من يمر على الأحداث أو الأماكن أو الأشخاص دون أن يلتفت إليها، بل يتفحصها جيدًا، ولا بدور المراقب للأحداث والمرور عليها دون أن يتوقف، ولا يكتفي باستخدام الرؤية والسمع وهي أدوات المراقب وهي التي مكنته من تسجيل الأحداث، ولم يكتفِ بذلك بل عايش تلك الأحداث وانغمس فيها دبلوماسيا وإنسانيا. فمن خلال فصول الكتاب وعناوينه يمكن لنا أن نتلمس الأسلوب الذي اتبعه في سرد تلك الأحداث فجاءت المقدمة تتحدث عن ماضي المكان هناك، من خلال سبر تاريخ ليبيا والفترات الزمنية التي تعاقبت على المكان، وفي لمحة تاريخية يصف طرابلس بأنها المدينة التي خرج منها ألمع قادة الجهاد ضد المستعمر الإيطالي، من أمثال الشيخ سليمان الباروني الذي ضمَّ جيله المجاهد عمر المختار وبشير السويحلي. عاش سليمان الباروني متنقلاً بين إسطنبول ومصر إلى أن استقر به الحال في عُمان إبان حكم السلطان تيمور بن فيصل وقد أسس المدرسة البارونية في سمائل. 

رحلة سفر إلى هناك، عندما كنت هناك، تكشف جمرا تحت الرماد، فوران التنور، عودة اضطرارية وعمل إنساني، عودة على بدء، خاتمة الكلام. تلك هي عناوين الكتاب.  

وقد يبدو أنه بيت النية منذ البداية على تسجيل ما قد يراه ويسمعه. هكذا بدأت رحلته التأملية للمكان مبكرًا جداً، فمنذ قاعة الركوب أو قاعة الانتظار في مطار مسقط الدولي. ولقائه مع مضيفة من نفس الحيز الجغرافي المغاربي، وعندما يصل إلى هناك لا يفوته أن يصف الحياة والتجمعات البشرية والوديان والجبال وطبيعة المنطقة وطريقة البناء ومدى التشابه بينها وبين عُمان، كذلك يشير إلى الروابط التاريخية بين الشعبين العُماني والليبي. ولا يفوت الكاتب وصفه لمدينة طرابلس كأنها فتاة مختالة معجبة بنفسها كأنها طاووس معجب بريشه ذي الألوان الجميلة

أكثر ما يشد القارئ هو تلك اللغة السلسة الجميلة الممزوجة بنفحة شاعرية يتخللها عمق فلسفي لمناحي الحياة وتصوراتها، تنم عن دراية تامة وثقافة عميقة للكاتب.  يتبين لنا ذلك من خلال عدة محطات في الكتاب.

لا يخلو الكتاب من مواقف طريفة يصفها الكاتب حدثت له، منها على سبيل المثال يوم تنصيب القذافي بملك ملوك أفريقيا، إذ وجد نفسه على نفس الطائرة المُتجهة إلى سرت ضمن وفود ملوك أفريقيا لمُقابلة العقيد القذافي.  

من الحكايات الدبلوماسية التي يرويها الكاتب لقاء العقيد القذافي بالشيخ أحمد الخليلي المفتي العام للسلطنة، وكذلك لقاء الشيخ الخليلي مع أعيان وشيوخ جبل نفوسة. كذلك يذكر الكاتب ذلك اللقاء الذي جمع العقيد القذافي مع معالي يوسف بن علوي وزير الشؤون الخارجية المتقاعد ويستحضر مقتطفات عن ذلك اللقاء الذي تم في خيمة القذافي في الصحراء وتقديم حليب النوق لهم.

رغم أنَّ الكتاب يتحدث عن التجربة التي عاشها الكاتب في ليبيا، إلا أن ما يميز الكتاب تلك النفحات التأملية التي يجيدها الكاتب وقد اتبعها الكاتب كتقنية  أراد بها أن يبعد القارئ عن أجواء الدبلوماسية والبرتوكولات والأحداث. يوصف الصحراء بالعالم المزدحم والجمال الهادئ وانعكاس ذلك على النفس.  

كتب بوصفه شاهدًا على الأحداث الدموية التي شهدتها ليبيا إبان ثورات الربيع العربي في 2011م التي عصفت بالوطن العربي، وكيف بدأت الاحتجاجات في السابع من فبراير مروراً بسيطرة الثوار على العاصمة طرابلس ومقتل القذافي في العشرين من أكتوبر.

ففي عنوان فوران التنور .. يشير بشكل عام إلى ممارسة الحكم وتصرفات الحاكم ويعتقد بأنَّ الحاكم لا يكون مساءَلا عما يفعله لمصلحة شعبه واستقراره، لكن إذا ما حاول الحاكم التدخل في القناعات الاجتماعية والدينية فستكون تصرفاته جائرة وباطلة.

ومن خلال بعض المظاهرات والاحتجاجات التي قامت في عدة مدن ليبية لم تتفهم السلطة تلك الرسائل الموجهة ولم يواجه تلك الرسائل إلا بمزيد من العنف والقمع، مع تزايد الأصوات التي تنادي بالحرية مما دفع بالكثير من الفوضى والعنف من قبل النظام ومن قبل الثوار وكيف انحدرت الأحداث إلى التدخلات الغربية والقوى الأجنبية في توجيهها والتأثير عليها، إلى أن سقط النظام الذي حكم ليبيا مدة 42 عاماً. وفي تلك الفوضى العارمة التي اجتاحت المكان، يحكي الكاتب كيف تمكن وزملاؤه من المحافظة على الهدوء، وتأمين مقر السفارة وكيف تم إخلاء العوائل العُمانية والمغادرة إلى الوطن عن طريق تونس. يصف الكاتب الساعات الأخيرة قبل مغادرته وزملائه طرابلس، وكيف كانت تلك الرحلة إلى مطار طرابلس بين وابل من القصف والانفجارات ورشقات صواريخ "جراد" إلى أن تمكنوا من المغادرة إلى تونس بطائرة صغيرة وحيدة في رحلة استثنائية لم يتبقَ منها إلا ثلاثة مقاعد، وعبر تونس وصلوا بعد يومين إلى مسقط، في رحلة وصفها هو كأنها حياة جديدة كتبت لنا. 

لكنه عندما يعود إلى مسقط كان مكوثه جداً قصيراً، ما لبث أن عاد مرة أخرى إلى ليبيا في رحلة إنسانية هذه المرة بتوجيهات من صاحب الجلالة السُّلطان قابوس -طيب الله ثراه- بأن يكون المشرف على المكرمة السامية لإيصال المساعدات الإنسانية للشعب الليبي. وكانت مهمة طبعاً شاقة في ظل تلك الظروف، لكنها تكللت بالنجاح الذي يحسب للدكتور قاسم الصالحي في إتمامها بالشكل المطلوب نظرًا لمعرفته اليقينية وصلاته الاجتماعية مع الشعب الليبي، رغم بعض الصعاب التي واجهها وخصوصًا أثناء التنقل بين المدن الليبية والعبور من نقاط التفتيش التي ينصبها الثوار وأعوان النظام.

وبعين المُراقب والقارئ للأحداث وبخبرة الدبلوماسي العالم ببواطن السياسة ودهاليزها يصف الوضع في ليبيا بعد الثورة وسيطرة الثوار على المشهد هناك، يصفه بأنه عودة على بدء. العودة إلى الفوضى والتفكك وسيطرة مجموعات مختلفة، وقيام كيانات محل أخرى، وظهور سياسيين ومنتفعين وارتفاع سقف المطالبات والخلافات، وجماعات متناحرة والخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين.

"افتحوا لليبيين في محنتهم قلوبكم وأبوابكم" بهذه الكلمات التي نقلت عن صاحب الجلالة السُّلطان قابوس رحمه الله حينما استقبلت السلطنة عائلة العقيد القذافي للعيش في عُمان. ثم كانت مساهمة السلطنة في استضافة هيئة صياغة الدستور الليبي التي استضافتها مدينة صلالة، والدور العماني في هذه المباحثات والأجواء التي خيمت عليها التي يحسب للدبلوماسية العُمانية نجاحها في ذلك، مع الدور الذي قام به د. قاسم الصالحي في تقريب وجهات النظر بين المجتمعين من خلال الخبرة الطويلة والرصيد الذي اكتسبه أثناء معايشته للواقع الليبي.

الكتاب بطبيعة الحال إضافة رائعة وثمينة للمكتبة العمانية، ليس فقط في العمل الدبلوماسي، وإنما على الصعيد الإنساني والفلسفي والسردي، يجب أن يلتفت له.

 في الختام كم أتمنى لو أن الكاتب سلط مجهره على بعض الشخصيات والأحداث وعلى تلك البقع والمناطق الضبابية واستطاع أن يضيء عتمتها، تلك المناطق التي كانت مركزاً للأحداث وأخذت كثيرا من الأقاويل وكانت منعطفاً لتغيير الكثير من المسارات والقواعد. ما يشفع لنا قد يكون في عمل آخر، يكون فيه الكاتب متحللاً من بعض القيود التي نعرفها جيداً. لربما يأتي ذلك في طبعة ثانية للكتاب بمزيد من التفاصيل والحميمية، ذلك ما ننتظره نحن القراء.