علي بن مسعود المعشني
عَرفَ التعليم التقني والفني في سلطنتنا الحبيبة تحولات وتعرجات كثيرة منذ فجر النهضة المباركة عام 1970، وكان الشغل الشاغل للحكومة والمجتمع في كيفية إنتاج مخرجات تعليمية تواكب أطوار الدولة وتلبي مفردات ومتطلبات التنمية بجودة عالية وبمنسوب رضا تعليمي ووظيفي واقعي ومقبول، نظرًا لفتوة الدولة العصرية في سلطنتنا الحبيبة وحاجتها الماسة إلى كوادر بشرية متخصصة من مخرجات التعليم التقني والفني.
ومرَّت تجربة التعليم التقني والفني بمرحلة الفصل عن منظومة التعليم العام والتعليم الجامعي، مع قيام معاهد متخصصة للتدريب المهني في عدد من ولايات السلطنة، ومع الأيام اكتشفنا أنَّ هذا الفصل والاقتطاع لم ينتج سوى مخرجات مشوهة وقاصرة عن تطلعاتنا؛ بل وبصمت تلك المعاهد وكأنها ملاذ للمتعثرين تعليميًا ومحدودي الطموح والكسب المعرفي؛ حيث لا أمل لتلك المخرجات في كسب تعليم عام ولا أمل لها كذلك أو نصيب من التعليم العالي؛ لمحدودية مناهجها وحصرها في منظومة مهنية ضيقة وتفتقر للمرونة والرصيد المعرفي المحفز للتطور. وفي مرحلة لاحقة، ومع تدفق الأعداد الكبيرة من مخرجات التعليم العام، تبين لنا مدى الحاجة إلى تعليم تقني وفني يرفد سوق العمل بكوادر متخصصة من تلك الأعداد، والتي لن تنال جميعها نصيبًا من التعليم العالي أو التوظيف المباشر للراغبين من تلك المخرجات، فاستوردنا نُظم تعليم تقني وفني سرعان ما تبين لنا فشلها في السلطنة، بسبب ضعف تحصيل الطلاب في مراحل التعليم العام من جرعات مفيدة وغير مُخلة من مواد تقنية وفنية تطور من مهاراتهم التعليمية وترغبهم في ولوج هذا النوع من التعليم، دون شعورهم بالنقص عن أقرانهم أو تعطيل طموحهم في المزيد من الكسب المعرفي في مستقبلهم الوظيفي. واليوم يأتي التوجه إلى تطعيم التعليم العام وتحديدًا في الصفوف الأخيرة منه (11- 12) بمواد من التعليم التقني والفني تُساعد الطلاب على اكتساب مهارات ومعارف لهذين التخصصين وتحفيزهم للمزيد منها بسلاسة ورغبة مع قيمة أخرى مشجعة لهم وهي ظفرهم بفرص عمل بنصيب وافر مستقبلًا، أي يمكننا تسميته بالتعليم المقرون بالعمل.
وأنا أتابع صدى التوجيهات الأخيرة بشأن الآليات الجديدة لتطبيق التعليم التقني والفني بالسلطنة، عادت بي الذاكرة إلى ما قرأته في كتاب معالي يحيى بن سعود السليمي الوزير السابق للتربية والتعليم "من وحي المكان وذاكرة الزمان.. التحولات الكُبرى للتعليم في عُمان"؛ والذي أفرد فيه صفحات عديدة عن رؤيته لمفهوم التعليم في ظل التحولات الكبرى للتعليم بالسلطنة بشقيه الكمي والنوعي؛ حيث شرح الكتاب المذكور في صفحاته عن بدء الوزارة في وضع الخطوات الأولى لتطوير منظومة الخطة الدراسية للصفين الحادي عشر والثاني عشر من التعليم ما بعد الأساسي، وكان هذا التصور في عام 2010 ويحمل علاجًا للتحديات التي يواجهها سوق العمل بالسلطنة بفعل الفجوة بين التخصصات الأكاديمية والحاجة الفعلية للسوق، مستحضرًا التطور التقني عالميًا ومؤشرات مستقبل الأعمال في ضوء التحولات العالمية الكبيرة على النطاق التكنولوجي والتحول الرقمي، وعبر استحضار عثرات منظومة التدريب المهني المقتطعة من سياق منظومة التعليم العام والعالي والتي أوجبت الظروف والتحديات تقويمها عبر الدمج مجددًا والعودة بها إلى منظومة التعليم العام والعالي والنهوض بها من خلالهما.
ويوضح التصور المسارات التخصصية الأنسب للطلاب وفق الميول والقدرات ويتناغم تمامًا مع التوجيهات السامية والتوجهات العامة لتنويع مصادر الدخل ونتيجة استحداث وزارات خدمية جديدة كوزارة السياحة وإنشاء كلية السياحة لخدمة وتطوير قطاع السياحة وتزويده بالكوادر الوطنية المتخصصة والتي غرس بداخلها حب ومفهوم السياحة والعمل الفندقي في مراحل التعليم العام بجرعات علمية متوازنة ومدروسة. وقد كان هذا التصور مبادرة كغيره من مبادرات التطوير التي استشرفت مستقبل التعليم ووضعت الحلول العلمية والعملية بدراسات عميقة ومحاكاة لتجارب عالمية زاوجت بنجاح بين التعليم بمنظومتيه الأكاديمية والتقنية والفنية وبما يتواءم مع سوق العمل وينسجم مع أطوار الدولة ويلبي مفردات التنمية الشاملة بكفاءة واقتدار.
وفي الختام.. أقول المراد والخلاصة من مقالي هذا وهو أهمية البناء والتجربة التراكمية في أعمار الدول وأطوار المجتمعات، فلاشك عندي أننا لو أخذنا برؤية معالي يحيى السليمي وطاقمه منذ عام 2010؛ لاختصرنا 10 أعوام من التلكؤ والتعثر، ولكننا نكرر مقولة: أن يأتي الخير متأخرًا خير من ألا يأتي أبدًا.
----------
قبل اللقاء: من لا يشكر الناس لا يشكر الله، ويُنسب الفضل لصاحب الفضل.
وبالشكر تدوم النعم..