من وحي الآيلتس

 

د. حميد بن مهنا المعمري

halmamaree@gmail.com

 

بعض المواقف في حياتنا يكون صداها أقوى، ووقعها أكبر على أنفسنا من غيرها، وبالتالي يتمخض عن ذلك الصدى الذي هزَّ النفس وزلزل كيانها أن تتفتق بعض الأفكار، وتتدفق بعض الأسئلة، وتأتي المقارنات على عجل؛ ليكون لها نصيبٌ من قسمة الميراث.

والآيلتس ذلك العقبة الكؤود، والسد المنيع الذي وقف شامخا بشعره الأشقر، وعيونه الزرق ورطانته الغربيّة في طريق طلبة العلم للحصول على مُبتغاهم.

كنت واحدًا ممن وقف ذلك السدّ القاسي عائقًا في طريقي لإكمال ما تبقى من متطلبات الحصول على درجة الدكتوراه؛ (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا)، ولكن لله درّ الإصرار! وما أعظم صاحب الهمة الوثّابة والعزيمة المتوقدة، والهدف السامي، والغاية النبيلة، فمهما كان مستواه في الفن الذي يُريد طلبه أو يرغب في إتقانه؛ فلن يقف شيء في طريقه؛ بل- لا أبالغ إن قلت- لو وقفت الجبال في رحلته تلك لزحزحها من طريقه، أو اقتلعها أو اتخذها صديقًا وسلك فجًّا فيها. فصاحب الهمة يستطيع أن يعصر حجر الوادي الأملس ويشرب ماءها!

وبتلك الهمة والعزيمة وبدعاء الوالدين، وتاج كل ذلك توفيق الله عزّ وجلّ، جئنا بنتيجة لم تخطر على قلب بشر؛ فافتخرت النتيجة بالنتيجة؛ فالحمد لله من قبل ومن بعد.

ومن خلال تلك الرحلة البحثية العلمية المُضنية، هجمت عليّ الأسئلة بشراستها وبقوة اندفاعها، علّها تجد عندي جوابًا شافيًا لِعِلَلِها، وأقبلت المقارنات تتبختر من جانب واحد؛ فزادت المبلول بلّاً، والعليل علّة، والألم صُراخًا وأنينًا.

وفي تلك الأثناء، وبين ذهاب الأفكار وإيابها، سقط عليّ سؤال كصاروخ القسّام الذي استفز القبة العنكبوتية مرارا وتكرارا ودغدغ مشاعرها، وفضحها في نفسها حتى تمنّت أنْ لو ابتلعتها الأرض في بطنها، بعدما انفضحت على ظهرها وفي عقر دارها، وقال السؤال بعد أنْ فجّر الغيرة في قلبي، وأشعل الألم في صدري، وشلّ التفكير عندي فأصبحت غير قادر على استيعاب ما يدور حولي من هول السؤال: لماذا لا يُوجد آيلتس للغة العربية؟! فحار الجواب جوابًا، ولم يجد للسؤال جوابًا! ثم ماذا؟ ثم لا ثم! فأطرقت خجلاً من السؤال، وحزنًا على الجواب، الذي لم تُسعفه دبلوماسية الدبلوماسيين في الهروب من السؤال وتقزيمه عندما يحرجهم السؤال ويخرجهم من جلودهم ويفضحهم، فيكون جوابهم أنَّه لا يستحق الجواب ولسان حالهم يقول للسائل (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا)! وها نحن تفصلنا ست ساعات عن بداية اختبار اللغة الإنجليزية لطلبة الدبلوم العام، ساعة كتابة هذا المقال، وثمّة استنفار في منازل هؤلاء الطلبة، لا لأنها صعبة أو لأنهم ناطقون بغيرها، وإنما لأنها مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بولوجهم إلى تخصصات لا يُسمح لهم فتح بابها بل رؤيتها إلا بالمفتاح السحري الكامن في هذه اللغة، ومع هذا فأنا لست ضد هذه اللغة أو غيرها من اللغات، ولكني أيضًا لست مع هضم عربيتي وعقوقها من أبنائها، وتهميشها، حتى أصبحت وأمست لا قيمة لها عند الطالب سوى رفع نسبته العامة بها، ثم يفارقها بالثّلاث، إلى غير رجعة!

فهل أُريد للغة العربية أن تكون لا قيمة لها في نفوس أبنائها وأحفادهم؟! وهل بُيّت هذا الأمر بليلٍ بهيمٍ؟!

وهل تصعيب اختباراتها أريد منه تحقيق الغاية نفسِها، وهي تنفيرهم منها، وإعدامها فيهم بالدم البارد، وبالتالي قطع أي علاقة تربطهم بها؟!

وهل حال أمة "اقرأ" المُزري بين الأمم هو السبب الرئيس الذي جنى على العربية، وجعل أبناءها يَقْبِلون على غيرها، ويفتخرون بتشدقهم بغيرها؟وهل لمطولات العربية سببٌ في إلحاق الضرر بها من حيث يُراد نفعها؛ بتفريعاتها، واستطراداتها، وحشوها بالخلافات والاستثناءات والشاذ من القول؟ وهل للمناهج الدراسية في وعورتها وخشونة مسالكها سببٌ آخر في تفاقم المشكلة، حتى ظهرت على السطح؟ وما هو مستقبل اللغة العربية عند أبنائها، إذا استمر الوضع بهذا الحال المخيف؟

أسئلة أوحى وقذف بها الآيلتس..