نساء يعملن تحت الشمس الحارقة

د. عبدالله باحجاج

في منطقة السعادة بصلالة يُمكن مشاهدة نساء من مجتمعنا المحلي يبعن بعض المأكولات الشعبية على شوارع يكثر فيها مرور السيارات، أو يكنَّ بالقرب من مراكز تجارية يزداد عليها التسوق، يقفن تحت الشمس الحارقة والرطوبة العالية، في حالات من الساعة الثانية عشر ظهرًا، بعضهن عندهن مظلات يدوية خفيفة، يضطررن لاستخدامها للتخفيف قليلًا من حرارة الشمس، وبعضهن يُثبتن مظلات بسيطة بمواد غير دائمة.. والحالات الأخرى بعد العصر، لكن يحظين بإقبال محدود جدًا، لكن عائده يعني شيئاً في مثل ظروفهن، كما سيأتي لاحقًا.

كان يُفترض من سائقي السيارات أن تستوقفهم مثل الحالات الواقعة على إحدى جانبي الطرقات، ويتعاطفوا معهن، ولو بشراء ما قيمته ريال، فالريال لهن كبير، فحالهن وأحوالهن تكسب التعاطف، والحديث معهن عن ظروفهن، لن نبالغ إذا ما قلنا تذرف له الدموع، أو على الأقل يحرق القلب، فهذه الحالات تجلس تحت الشمس من الظهيرة للمساء ليس للاستجمام أو للتجارة وإنما لتأمين قوتهن وسترهن.

وفي كل الأحوال، تظل قضية مخاطر الأشعة فوق البنفسجية القادمة من أشعة الشمس هي الجانب الصحي العاجل الذي لا ينبغي الاستهانة به، والذي يدفع بنا إلى التعاطي مع هذا الملف لتحريك المسؤوليات الرسمية تجاه هؤلاء المواطنات اللاتي وراء كل واحدة منهن قصص إنسانية واجتماعية كبيرة، والآن تقف القصة الصحية في مُقدمتها.

وتذكر بعض المصادر نقلاً عن مُنظمة الصحة العالمية أنَّ هناك سبعة أضرار رئيسية للأشعة فوق البنفسجية القادمة من أشعة الشمس، أخطرها شيخوخة الجلد، وسرطان الجلد وتلف أجزاء من العين، وتدهور قوة مناعة الجسم.

القضية لها ثلاثة أبعاد أساسية: صحية وإنسانية واجتماعية، لذاك هي مُهمة وعاجلة، وقد لا يكون تعاطينا معها في نافذتنا الصحفية جديدًا على المسؤولين والمجتمع، هي معلومة بذاتها؛ لأنها واقعة تحت أنظار الكل، ورغم ذلك، يمر عليها المسؤول دون أن تستوقفه عاطفته أو مسؤوليته، ويفتح ملفهن للوقوف على الأسباب أو على الأقل يستوقفه منظرهن، وهن تحت الشمس الحارقة، ويسألهن لماذا يبعن تحت الشمس الحارقة.

أمس ظهرًا، وصلت درجة الحرارة في مدينة صلالة إلى أكثر من 30 درجة مئوية، ومستوى الرطوبة عالٍ، على عكس الجبال التي تشهد منذ أيام تباشير الخريف السعيد. وقفتُ على حالات عشوائية في الميدان، ولكم تصوُّر مشهد النساء تحت الشمس والرطوبة لساعات طوال من أجل بضعة ريالات في اليوم، وإذا حصلت عليها إحداهن، فستكون محظوظة في يومها، ويزداد القلق عندها لليوم التالي، ليس مهمًا المبلغ، ومن المؤكد أنه ليس كبيرًا حتى يكون دافعًا للتضحية بالصحة والسلامة النفسية، وهنا نحاول أن نقرِّب لكم بيئة العمل القاسية لهذه الفئة من النساء، وهن يرتدين العباءة السوداء، وذلك للكشف عن أنَّ الدافعية وراءهن قوية جدًا.

من المؤكد أنَّ الحاجة المالية هي التي تقف وراء ذلك، وليس البعد التجاري الغائي، ولو لم يكن وراءه لقمة العيش ودواعي "الستر"، بعد أن عصفت بكل واحدة منهن الأنواء الاجتماعية المختلفة، لما قبلن أن يعملن تحت تلكم الظروف، وماذا نتوقع أصلاً من مردودهن اليومي حتى نسلم بالغاية المزدوجة "المعيشية والتجارية"؟

توقفتُ عند إحداهن الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرًا أمس، وسألتها قائلًا: كيف تعملين تحت الشمس الحارقة؟ أجابتني ببعض مفردات الدارجة الظفارية القديمة، قائلة "إنها الظروف التي تجعلني أعمل تحت النار والصقريت" ومفردة "الصقريت" بالدارجة القديمة خاصة في مدينة صلالة، تعني الرمل أو التراب، وينصرف الفهم كذلك، لهواء عاصف محمل بالتراب، وإجابتها التلقائية والعفوية مقدمة أولى تكسب التعاطف، وواضح من بنية حديثها معي خلفيتها الثقافية المُتواضعة، وبساطتها الاجتماعية رغم أنها ليست كبيرة في السن، وهناك نساء كبيرات في السن يعملن في مثل هذه الأعمال الحرة وتحت الشمس.

مشهدهن العام يكتسب التعاطف في حد ذاته، وعندما نتعرف على قصة كل واحدة منهن، يتحول التعاطف إلى قضية، فالمواطن "المستور" الذي معه أدنى متطلبات معيشته اليومية، لن يقبل العمل في مثل تلكم الظروف، فكيف بالعنصر النسائي، فوراء كل واحدة منهن قصة، نكتفي بحالتين اقتربت منهما ظهر أمس، الأولى صاحبة مفردة "الصقريت" مُطلقة، وروت لي أنَّها مستأجرة شقة صغيرة، وأنها تعمل تحت النار- أي الشمس- لتأمين قوتها ودفع إيجارها، موضحة أنَّ لديها بنت متزوجة من شاب راتبه ضعيف، ولديهما بنت مصابة بمرض التوحد.

دفع بي الاستقصاء إلى التوقف عند الحالة الثانية لامرأة مُطلقة أيضًا، تجلس تحت الشمس المُلتهبة، تبيع الشاي وبعض المُعجنات المحلية، فمن مجموعة استفسارات، عرفتُ أنها مُطلّقة، وأن راتب الضمان الاجتماعي يذهب لتغطية فاتورتي المياه والكهرباء، وبعض مصروفات الأبناء. حالة ثالثة، لفتتْ انتباهي بقربها من سيارة تعليم القيادة، حديثة الصنع، فاكتشفت منها، أنها اضطرت لبيع الخبز وبعض المعجنات تحت الشمس بسبب كورونا الذي أوقف نشاطها الوحيد الذي تُعيلُ بها نفسها بعد طلاقها المُبكر، وقالت- ويبدو عليها أنها تتمتع بمستوى ثقافي لا بأس به :"أحاول بهذا العمل تأمين قوتي"، ولما سألتها عن ربحيتها في اليوم، قالت ما بين ريالين وثلاثة ريالات فقط!!

سنجدُ الطلاق، والحاجة الماسة للستر، من بين عناصر أساسية تقف دافعة للعمل النسائي تحت الشمس الحارقة وفي "الصقريت"؛ لذلك، لابُد من فتح الملف الاجتماعي لكل حالة بصورة منفردة، ليس من منظور الشفقة والرحمة، وإنما كحق من حقوقهن كمواطنات، ونقترح 3 مسارات متزامنة: من يثبتُ منهن استحقاقها لشروط المظلة الاجتماعية والسكنية، وراتب الأمان الوظيفي، تمتد لها عاجلًا، والآخر، العمل المنظم على استدامة مصدر رزقهن الحر، والاستدامة تكمن في عملهن محلات ثابتة في أماكنهن إذا كان الموقع يسمح بذلك، وتمنح لهن كحق انتفاع، أو اختيار مواقع يكثر الإقبال عليها.

أما النساء اللاتي يبعن أمام واجهات المراكز التجارية، فنقترح حث هذه المراكز على فتح أو إقامة نوافذ تسويقية خارجية لهن، لبيع منتجاتهن للجمهور، بدلًا من المنظر غير المُريح، وهنَّ يبعن أمام واجهة المراكز على الأرض، واعتبار ذلك من المسؤولية الاجتماعية للمراكز التجارية، فعليها واجب أن تستوعب مثل هذه الأعمال الحرة غير الربحية بالمفهوم التجاري، خاصة وأنها ليست في وضعية المنافس لها. لذلك المسألة تحتاج لمن يحرك هذا الملف، فمن حق النساء أن يعملن في ظروف أفضل، وحقهن الدعم والمساعدة الحكومية، واتضح لي من خلال حديثي مع الحالة الأولى، أنها عانت كثيرًا مع قضية استحقاق الحق في الضمانتين الاجتماعية والسكنية منذ خمس سنوات، لكنها لم تتمكن منهما.

من هنا.. نُطالب بإرسال الباحثين الاجتماعيين إليهن، وفتح ملفاتهن الاجتماعية؛ فالحقوق في مثل هذه الحالات تذهب إليهن، ولا ينتظر مجيئهن، وكفى بالساعين وراءها شرفًا ومنزلة في الدنيا والآخرة.. عندها سيكون الجهد ساميًا، وأثره مُباركًا، ومسماه وطنيًا، وإلا فإنَّ الفقر والمرض سيلازمهن طوال حياتهن في ظل المتغيرات والتحولات الكبرى التي تطرأ في كل مناحي حياتنا الجديدة، والله المستعان.