يوم الأب

 

سالم بن نجيم البادي

لم يحظَ يوم الأب بالاهتمام الذي يحظى به يوم الأم ويوم المرأة ويوم الأب يكون ثالث يوم أحد من شهر يونيو وقد صادف هذا العام يوم٢٠/٦ ومرَّ دون ضجيج ربما لأن يوم الأب غير معروف هنا وفي الوطن العربي ونشأته كانت في الولايات المتحدة الأمريكية ولم انتبه لهذا اليوم لو لا أن بناتي وأولادي اتفقوا على عمل مفاجأة لي بأن أقاموا حفلة بمناسبة.هذا اليوم ولايفهم.

من هذا أنني أطالب بالاحتفاء بهذا اليوم لكنني وجدتها فرصة للكتابة عن الأب وكنت استمعت إلى آهات أولئك الذين فقدوا آباءهم وهم يتحدثون عن وجع فقد الآباء رحيل الأب فاجعة كبرى تبقى عالقة في سويداء القلب وذكرى لا تمحى مع مرور الأيام والليالي.

الأب بهجة الحياة والركن الشديد الذي نلوذ به ليس فقط عندما نواجه المصائب بل في كل حين، والذين تكلموا عن عظم مصيبة موت الأب كانوا كباراً ولديهم أسر وأبناء ومع ذلك شعروا كما يقولون بأنَّهم كبروا فجأة إن لم نقل شاخوا وتحملوا مسؤوليات جسيمة كان الأب يحملها وربما فقدوا لذة الحياة في لحظات اليأس منذ الأيام الأولى بعد موت آبائهم وقد يستمر هذا الشعور لسنوات طويلة وربما حتى آخر لحظة من أعمارهم.

وحتى إنهم أحسوا كما قال أحدهم بأن الدور عليهم في انتظار الموت وكثيرة هي لحظات الضعف والشعور بالهزيمة وخيبات الحياة المتتابعة، وأشدها ألما رحيل الأب وإذا كان هذا حال الكبار ممن فقدوا آباءهم فكيف حال الأيتام الصغار الذين فقدوا آباءهم، إنَّ حال هؤلاء لايخفى على أحد يكفيهم لقب يتيم والحزن الذي يلازمهم طوال الحياة بعد أن أصيبوا بكارثة فقد العزيز الغالي الأب وأجد قلمي يقف. عاجزا أمام وصف مصيبة الأيتام الصغار وهم يرون أقرانهم مع آبائهم يغدقون عليهم الحب والحنان والعطف والرعاية والحماية والاهتمام ويعتمدون عليهم في كل شيء نظرًا لصغر أعمارهم، هؤلاء الأيتام يسيرون وحدهم في دروب الحياة الوعرة إذ لا أحد يستطيع أن يحل محل الأب ولا أن يلعب دوره في حياة الأبناء‏ ولا شيء إطلاقاً يعوض غياب الأب.

ذكريات الأب الراحل لا تفارق ذاكرة الأبناء أبداً ويبقى الحنين والأشواق والذكريات والدموع وبقايا من أثره وكأنما روحه تحوم دوماً في زوايا البيت وفي الزمان والمكان والقلوب والأرواح.

الأب وحرصه على أن يرى أبناءه في أعلى المراتب وهو يسهر على راحتهم ويسعى لتحقيق كل طلباتهم والتضحية بالغالي والنفيس وبالصحة والمال والحال حتى يوفر لهم سبل الراحة والسعادة ولايقتصر دور الأب على توفير الحاجات المادية للأبناء بل والدعم المعنوي والحرص على السكينة والهدوء والسلام ضمن أسرة مُتماسكة ومتعاونة يسود فيها الحب والتسامح والشورى والديمقراطية والحرية أسرة لا قمع فيها ولاعنف والتربية فيها تقوم على تعاليم الدين الحنيف والأخلاق والعادات والتقاليد الحميدة والقيم. ولاتوجد حياة مثالية خالية من المنغصات ولكنه الأب الرحيم يحاول قيادة سفينة الأسرة بحكمة وحنكة وصبر حتى تصل إلى بر الأمان.

الأب الحاني الودود وجوده ينشر السعادة في البيت وبين أفراد الأسرة وهو يلعب معهم وينصت إلى أحاديثهم. ويهتم بأحلامهم وأمنياتهم. ويساعدهم في حل مشكلاتهم ويحاول تنفيذ طلباتهم. التي لا تنتهي ويحترم مشاعرهم وعواطفم وتقلب أمزجتهم خلال مراحل أعمارهم وحتى في ساعات غضبه وحين يقوم بتأديب الأبناء وربما ضربهم هو في كل الأحوال يسعى إلى مصلحتهم ويفعل ذلك بحب وشفقة بعيدًا عن الحقد والانتقام وفي رأيي لا يوجد أب قاسٍ هي أساليب تربية مختلفة وربما متوارثة أو هي ظروف وقسوة. الحياة وتأثير البيئة المحيطة. والمجتمع وسيدرك الأبناء بعد غياب آبائهم أن ما كانوا يعتقدون أنَّه قسوة أو حتى جفاء وما يظهر أنه عدم حب أو اهتمام كل ذلك غير صحيح، الناس يختلفون في تصرفاتهم أو طرق التعبير عن عواطفهم أن بعض الآباء لايعبرون عن حبهم ولا يظهرون اهتمامهم بالأبناء لكن قلوبهم عامرة بالحب والشفقة والاهتمام تجاه الأبناء.

وإذا مرض أحد الأبناء يكون الأب على استعداد حتى أن يهب حياته من أجل أن يرى ولده سليمًا معافى. وأيام دراسة الأبناء يجتهد الأب في تذليل كل الصعاب من أجل أن يرى أبناءه وقد نجحوا وتفوقوا. وإذا سافر أحد الأبناء تظل روح الوالد ترفرف حوله ترعاه عن بعد وهو قلق يتابعه ويتفقد أحواله ويوصيه بنفسه خيرًا، ويهتم الأب كثيرا حتى يجد للابن الوظيفة المناسبة أو العمل المريح، ويجتهد في البحث عن الزوجة الصالحة للابن والزوج المناسب للابنة وقد يتكفل الأب بتكاليف زواج أبنائه، وينتظر بفارغ الصبر حتى يرى أبناءه وقد نجحوا في حياتهم واستقروا مع أسرهم وعنئذ يشعر الأب بالراحة والطمأنينة بعد أن قام بدوره في تربيتهم وقد أفنى عمره وشبابه في سبيل تنشئتهم وقد كدَّ وتعب وقاسى وخاض حروبًا طاحنة في الحياة من أجل أبنائه ومن أجل أن يراهم أخيرا في خير حال.

فقدُ الأب وجعٌ لا يشعر به إلا من ذاق مرارته وهو وجع لا يشبه وجعاً آخر، وبهجة وجود الأب لامثيل لها بهجة لا يجلبها المال ولا الجاه ولا الشهرة ولا حتى الزوجة والأبناء والأسرة ربما هي تشبه بهجة وجود الأم والأم تكمل هذه البهجة.

ولعل الحديث عن التجربة الشخصية في هذا المجال لا يضر حيث إن وجود أبي يشعرني بسعادة غامرة ولا أمل من النظر إليه بفخر وطمأنينة لاحدود لها وأحس أنّه يحمل عني أعباءً كثيرة حتى أنني ألقي على عاتقه كل أحمالي الثقيلة واعتمد عليه في تسيير كثير من الأمور الحياتية وأنام قرير العين وأصحو مطمئنًا لاشيء يهمني في وجود أبي ولا أتصرف دون الرجوع إليه وكلما صفعتني الحياة عدت إليه فأجد السلوى والمُواساة وشحذا لهمتي حتى إن الناس يستغربون حين أرجع كل شيء إلى أبي بشوف الوالد. بسأل الوالد الرأي عند الوالد هل يعتبر ذلك ضعفًا في الشخصية أو اتكالية مفرطة وهروبًا من مواجهة المشاكل وعدم القدرة على اتخاذ القرارات المصيرية. لا أعلم لكنني سوف أعيش في جلباب أبي.

ولا أخفيكم توجسي وخوفي حد الهوس والوسواس من فقدان أبي وأنا في هذا العمر ومن شدة تعلقي بأبي كنت أذكره في معظم قصصي القصيرة التي أنشرها في الصحف ومن ثم في كتابي سيرة الشتات. وكتبت مقالاً بعنوان في حضرة أبي أذكر فيه محاسن أبي وتقوى وزهد أبي واعتزازي وفخري بأبي وحضوره الطاغي في الحياة والبيت وجلوسي بين يديه بذلة وخشوع وتبتل وكأني في حضرة ملك تاجه الهيبة والسمت والوقار، ومقال كورونا وأبي والمسجد الذي نشر في جريدة الرؤية عند بداية انتشار وباء كورونا وإغلاق المساجد.

كل عام وأبي وآباؤكم بخير وسعادة.. ورحم الله الآباء الذين رحلوا.. وعلى الأبناء الذين لا يزال آباؤهم على قيد الحياة أن يعلموا أن وجود آبائهم نعمة كبرى عليهم أن يحمدوا الله عليها وأن يستغلوا وجود آبائهم في برهم والإحسان إليهم قبل الرحيل.