علي بن سالم كفيتان
تُمثل الثورات في كل أنحاء العالم زفير الشعوب ومن لا يعرف الزفير فهو "إخراج الهواء من الرئة عبر الفم والأنف معًا"، وعادةً يكون ذلك الهواء مليئًا بثاني أكسيد الكربون، ومن هنا يتبين أنَّ الدافع خلف الثورات؛ هو نيل الاستقلال وتقرير المصير والسيطرة على الموارد الوطنية، وتنقية الأوطان من درن الفساد؛ إذ إنَّ تعطل عمليتي الشهيق والزفير في الجسد البشري يعني الموت؛ لذلك تقاتل الشعوب الحرة من أجل الحياة حتى آخر رمق ولا تستكين للذل والمهانة.
الثورات تلتهم أرواح الأبطال ويحصد ثمارها الجبناء والمتربصون من أبناء جلدتها، كما يُقال، لذلك يفشل مُعظمها في تحقيق أهدافها السامية وتتغير مساراتها ثم تذوي فتضمحل مع الزمن، بينما يقتات البعض على الذكرى، فيستحضر الساحات والمشاهد التي مات أصحابها ويُحاول أن يجد لنفسه مكانًا في زحمة الأمجاد. إنَّ كل ذلك الصراع يختلج ويتشكل كلما صدرت معزوفات غير متناغمة مع الطموح السوي للإنسان بحياة كريمة؛ فالإنسان جُبل على حب الفرص ونيل المكاسب والعيش الكريم، ومثلما تذوي الثورات تشيخ الأنظمة، كذلك ولا يوقظها إلا التلويح بالعودة للكفاح، فلجام الثورات هو الرفاه الاجتماعي والتقاسم العادل للثروة وتولية الأخيار أمور الناس، حينها لن توجد أية مُبررات للبحث عن ثوّار قضوا منذ زمن بعيد؛ فالشموع ليس بمقدورها الصمود في وجه العاصفة "السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- نموذجاً".
عندما تبحث عمَّن يُسمّون بـ"قادة الثورات" أو "مُنظِّريها" ستجدهم على الموائد المتخمة بشتى صنوف الطعام والشراب، ينعمون بالحرير والديباج، ويمتطون صهوات أغلى مركبات الاستعمار الذي زعموا أنَّهم يحاربونه يوماً؛ فقد عادوا مُحمَّلين بالخيبات والهزائم ولن تهمهم الذكرى رغم شغفهم بسماع أسمائهم تتلى في سجلات الخالدين من أجيال لم تعرف الفرق بين الثائر والمُنظِّر أو المُتمَصلِح الذي سلب الدماء الزكية وجرب جميع الخيارات من أجل البقاء، في حين ابتلعت الأرض عشرات الشباب في مُقتبل العمر، فلن يتغير في الأمر شيء إذا تمَّ وصف هؤلاء بالمتمردين بدل الثوار؛ فالحقائق لا تموت والأسماء لن تجمل قبيحًا، ومثلما قالوا "المُنتصر هو من يكتب التاريخ"!
فحسب مراكز الأبحاث- التي أفردت مساحات واسعة لدراسة حركة الثورات من حيث نشوئها وكفاحها ونهاياتها- وجدت أنها في المجمل لم تُحقق الشعارات البراقة التي نادت بها ابتداءً من الثورة الفرنسية وانتهاءً بما يُسمى "الثورات العربية" وإلى "الربيع العربي"، وبينهما تولدت حركات وطنية قادتها الضرورة، ليس لنيل الاستقلال- كما يُشاع- بل لتغيير الوضع الاقتصادي المتردي، رغم أننا لا ننكر هنا أن بعض تلك الحركات التحررية طردت المُستعمر، لكنها لم تؤسس نظامًا راشدًا عادلًا؛ بل عادت لمُمارسة الديكتاتورية في أبشع صورها، وسيطرت على كرسي الحكم لعقود، وصارت تحكم الناس باسم الثورة التي طردت المستعمر، ولم تنجب أي نظام سياسي قاد تلك الدول للرفاه والاستقرار السياسي، فسرعان ما تساقطت تلك الأنظمة كأحجار الدومينو، مع أول زفرة للشعوب الغاضبة، لكنها ظلت متشبثة بالسلطةـ وداست على كل الاعتبارات من أجل البقاء، فإن سقط رأس الهرم بقيت أظافره ناشبة في جسد أمته!
عندما نتناول الثورات أو أبطالها أو بعض أحداثها، يجب أن يكون ذلك مجردًا من روح العاطفة التي تنقي كل الأخطاء وتضعها على الرف وتنظر بعين واحدة وتغمض الأخرى، وفي ذات الوقت لا يجب إهمال أو تجاوز ما أفرزته تلك الثورات أو الحركات الوطنية من صدمات في الجسد الساكن؛ لتعود له الحياة مُجددًا، فإن لم تفرز تلك الحركات نظامًا سياسيًا استطاع الوصول للحكم، فإنها صنعت أنظمة أكثر انفتاحًا وعدلاً، ومعظم من يتحدثون اليوم عن الثورات هم من أبناء الجيل الذي ترعرع في كنف النتائج، وعاش مخرجات الثوار الذين غيبتهم المعارك والسجون، ومن هنا يتبين أن المصداقية في طرح وتناول الثورات تستوجب النظر بكلتا العينين معًا، وليس اجتراح الماضي ونبش الجروح الغائرة التي تجاوزها المجتمع، وبدأ يستعيد عافيته من ندوب الزمن المر.
قد يتفق معي البعض وقد يختلف في هذا الطرح، لكنني أرى- في الختام- أن إنشاء مراكز للدراسات السياسية تحتوي على جميع الوثائق المتعلقة بالثورات العربية على مستوى كل قطر، سيكون بمثابة التصحيح ومنع التكهنات والبحث عن المجهول؛ فكل ممنوع مرغوب- كما يُقال- وخاصة في عالم اليوم، الذي بات الفضاء هو الساحة التي يبث فيها كل شخص وفق هواه وإمكانياته وتوجهاته.