لحن قديم

 

سالم بن نجيم البادي

 

لحن قديم وأغنية شعبية موغلة في الحزن وجدها في أضابير الذاكرة لا يدري كيف توهجت فجأة، أغنية تعود به إلى الوراء، فتستيقظ الذكريات وتنشط، وتتابع كأنها شريط سينمائي ينبش الحنين والأشواق، وهو يحاول المقاومة والهروب، لكن قضي الأمر.

الذكريات صارت عاصفة قوية لا يمكن مقاومتها أو أن يحاول المرء عبثاً أن يحتمي من عنف العاصفة، فيهرع إلى ألبوم الصور القديم الذي أخفاه عن ذاكرته، في مندوس خشبي، والمندوس يضم كومة هائلة من الرسائل والصور فهو مستودع الأسرار.

كان قد أحرق الكثير من الصور والرسائل في نوبات الزعل والاحتجاج على الهجر الطويل والعتاب واليأس وفي اليوم الأول من الفراق الأخير ويسوقه الشوق قهراً مثل الذي يمشي خلال النوم يسير لا إرادياً وفي حالة بين الوعي واللاوعي دليله عقله الباطني الذي صار الآن ثملاً بالذكريات وقد وجدها فرصة سانحة للهروب من الواقع وعقله وجد التأييد والحماس من قلبه المثخن بجراح الواقع هو الآخر.

الهروب إلى أين؟ إلى المدينة التي جرت فيها أحداث حكاية الحب التي أعادتها إلى واجهة الذاكرة أغنية ولحن شعبي قديم؟

وفي لحظة جنون قرر أن يذهب سيرًا على الأقدام وقد ألقى بهاتفه ومفتاح سيارته في جوف المندوس واختار الطريق الأبعد الذي تمر به السيارات؛ وهي ذاهبة إلى المدينة مع وجود طريق جبلي آخر أقرب يسلكه المشاة في الماضي، وكان يمشي بمحاذاة الشارع العام حتى لا يتوه في الصحراء وكلما سمع سيارة قادمة يجري حتى يتوارى عن الأنظار هروبًا من فضول سائقي السيارات ثم يعود ثانيةً إذا اختفت السيارات.

ومن سوء الطالع أن الطقس كان باردا والرياح الشمالية تزمجر وتثير الغبار وتجلب الرمال إلى وسط الشارع لتصنع مطبات هائلة، وفي الليل يأوي إلى شجرة السمر يبيت ليلته يرتجف من البرد ويحاول إشعال النار لكنه يفشل بسب هبوب الرياح العاتية، ورفقاء دربه دلة قهوة وإبريق الشاي وخبز الرقاق اليابس والكامي الجاف والقاشع المطحون والتمر ومطارة الماء يريد أن يعيش على طريقة أسلافه البدو.

غير أنه لا ناقة له وأوجاع الحضارة المعاصرة زادته وهنًا على وهن. وهو في كل الأحوال يمارس الهروب من كل شيء، ويعتريه الشعور بالوحشة والخوف والرهبة والضجر من طول الطريق لكنه في حالة إذعان مطلق للذكريات والرغبة الملحة في الهروب، ويتوقف قليلاً يتأمل الصحراء وتلال الرمل الصافية التي وقع في غرامها منذ زمن الطفولة.

وتتغير الرياح أحياناً من شمالية باردة إلى جنوبية دافئة ثم يهطل المطر وتسيل الأودية والشعاب ورياح غربية أشد برودة ويهب من الشرق نسيم يدعوه إلى العودة من حيث أتى لكن لا مجال للعودة الآن وقد أوغل في السير. ويروق له البقاء في هذه الصحراء إنِّه هارب في كل الأحوال لكنها الذكريات كأنها تسوقه بالعصا كما يفعل ذلك العامل الوافد يرعى الجمال في الصحاري الشاسعة.

اقترب منه وقد ظن أنَّه جائع أو يعاني من البرد والتعب والوحدة لكنه رجح أنَّ الرجل مصاب بداء الذكريات والحنين مثله. أخبره العامل أنه لم يسافر إلى بلده منذ خمس سنوات، وقد أخرج هاتفه من جيبه ليطلعه على صور عائلته وطفلته الصغيرة لقد صدق حدسه أنَّ علة هذا الرجل الشوق والحنين مسح العامل دموعاً تسربت من عينيه وشرحت ما عجز عن شرحه بلسانه الأعجمي. واصل طريقه وفي ذهنه خطة مُحددة سوف يزور الحارة التي كانت تسكنها وسوف يقف في الشارع الذي كانت تقف فيه في انتظار حافلة المدرسة ثم تترك له رسالة تحت الحصاة فيها قلوب دامية ورسم ورد وأزهار وكلمات موجزة.

وستجد حين تعود من المدرسة وفي المكان المتفق عليه مسبقًا ردا على رسائلها، وقناني عطر وأقلامًا وأشياء أخرى وقد يغزو الحدائق التي توجد بكثرة في المدينة ليقطف لها أزهارا ووردا في غفلة من حراس الحدائق والشريط الذي يحوي اللحن الذي وجده الآن.

وقد أخبرته أنها فرحت بالشريط وأدمنت الاستماع إليه كما فعل هو من قبل، وفي ذاكرته رائحة الازهار والورود التي تنتشر في الليل والصباح الباكر في كل أرجاء المدينة الجميلة. وسوف يتذكر أيام الشتاء والضباب والمطر والبرد وأفواج الناس والسيارات والحافلات وطلاب المدارس في أزيائهم الموحدة.

سيزور كل الأمكنة التي في المدينة والحارات والأسواق وضواحي النخيل والأفلاج والأزقة والمتحف والمكتبة العتيقة التي كان يتردد عليها ومباني المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية التي درس فيها والجامعة ومبنى الكلية التي تخرج فيها والمكان الذي كان يحضر إليه عصرية كل يوم جمعة ليستمع إلى فرقة العيالة والفنون الشعبية، والساحات التي كانت تقام فيها المناسبات وحفلات أعراس الشيوخ الباذخة التي يدعى إليها المطربون ومن بينهم صاحب هذا اللحن القديم.

وهو مشتاق جدًا إلى ليل هذه المدينة الحالمة التي تقبع في أطراف الصحراء وقد كان مولعًا بالسهر الطويل، ولا ينسى أيام الصيف ودرجات الحرارة الحارقة والثمار التي تنضج في القيظ مثل الرطب والهمبا والتين والفرصاد والعنب.

ورائحة البرم الآتية مع نسيم الصباح من الصحراء وهديل الحمام في الضحى وهي تبني أعشاشها فوق أشجار الغاف الطويلة وهو وأصدقاؤه في انتظار أن تضع بيضها ثم يفقس البيض وتتم سرقة أفراخ الحمام لتربيتها في البيت حتى تكبر. والفرح بالإجازة الصيفية وليالي الصيف الضاجة بالحركة في الأسواق والمقاهي وروائح الطعام ذات النكهة الهندية التي تنبعث من هذه المقاهي.

هذه رحلة الذكريات التي تتراقص في ذهنه وهي كثيرة يحتاج لسردها ذاكرة خارقة، وحين وصل إلى المدينة تبخرت كل أحلامه وفقد البوصلة لقد تبدلت كل ملامح المدينة مع التطور المتسارع والهائل لم يستطع التعرف على الشارع التي كانت تقف فيه في انتظار حافلة المدرسة ولا الحارة التي كانت تسكنها وحتى الحديقة التي كان يسرق منها الورد. أنكرته المدينة كلها وبدا غريبًا وتائهاً، عاد يجر أذيال الخيبة وقد تخلص من اللحن القديم والمندوس وذاكرته.