تسويق الأفكار المُنبثقة من النظريات العلمية

أ.د. حيدر أحمد اللواتي

كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

 

تُعد العلوم التجريبية العمود الفقري الذي تقوم عليه الحضارة البشرية في العالم بأسره، وهو أمر لا يمكن لأحد أن ينكره أو يرفضه، لكن ما نرغب أن نسلط الضوء عليه في هذه العجالة هو قدرة علماء العلوم التجريبية بمختلف تخصصاتهم على التواصل مع المجتمعات البشرية بمختلف طبقاتها، وتسويق أفكارهم عبر نظريات علمية لا تبدو أنها سهلة المنال لغير ذوي الاختصاص.

لقد استطاع عدد لا بأس من هؤلاء العلماء التغلب على التحديات التي تواجه المتخصص في قدرته على التواصل مع الآخرين من خلال تبسيط المفاهيم العلمية، وربطها بقضايا ذات أهمية كبيرة في مختلف النواحي التي تُهم الإنسان، مثل تلك التي تُحاول أن تُجيب على مبدأ الكون، ومنتهاه ونشأة الحياة وأصل البشرية مرورًا بالتحديات الحالية، وانتهاء بمآل البشرية ومستقبل الكون وما فيه.

ومما يجعلنا نعتقد بإقبال الآخرين على ما يطرحه هؤلاء العلماء هو الكم الكبير من الكُتب العلمية الموجهة لغير المتخصصين التي تُزخر بها المكتبات، والإقبال على شرائها واقتنائها فبعض هذه الكتب بلغت مبيعاته حوالي 10 ملايين نسخة مثل كتاب مُوجز في تاريخ الزمن لستيفن هونكيج، على الرغم من كونه كتابا علميا صرفا يطرح نظريات علمية عميقة بلغة مبسطة وواضحة، وفاقت مبيعات كتاب الجين الأناني لريتشارد دوكينز المليون نسخة على الرغم من وجود نسخ مجانية على الشبكة العنكبوتية.

وعلى الرغم من عمق المفاهيم التي يتم تناولها في كتبهم وصعوبتها إلا إن الملاحظ في هؤلاء العلماء أنهم نادرًا ما يتحججون بصعوبة استيعابها، وفهمها من قبل غير المختصين بل الكثير منهم يعتقد أن فشله في توصيل أفكاره بطريقة يستطيع غير المتخصص فهمها يعني أنه لم يستوعبها هو نفسه بشكلها الصحيح.

كما أنهم لا يتحججون كثيرًا بوجود مقدمات علمية تصعب على غير المختص فهمها بل تراهم يبذلون جهودًا كبيرة ومضنية في سبيل توضيح الأفكار المرتبطة بالنظريات العلمية للآخرين، بل البعض منهم يقوم بالاستعانة بمتخصصين آخرين في مجال التواصل الاجتماعي سعياً منه لتبسيط المعلومة والأفكار للقارئ بشكل لا يجد تحديات كبيرة في استيعابها.

ومن هنا نجد أن مفاهيم ونظريات معقدة تحتاج إلى متخصصين لاستيعابها، حيث تنتشر بشكل كبير في أوساطنا كالمفاهيم المرتبطة بنظرية الانفجار العظيم، ونظرية دارون ونظرية الكم بل وحتى بعض الفرضيات العلمية والتي ما زالت نماذج رياضية كتعدد الأكوان وغيرها من المفاهيم والنظريات العلمية. كما تلاحظ أن المكتبات مليئة بعدد يصعب حصره تتناول هذه المواضيع العلمية بصورة سلسلة ومبسطة وبمستويات علمية مختلفة، بل قد تجد أن بعضاً منها موجهة للناشئة وأخرى للأطفال.

وخلاصة ما نجده عند هؤلاء أن هناك سعي واهتمام بالغ في توصيل وتغذية المجتمع بالمفاهيم العلمية وتسويق الأفكار المنبثقة منها للمجتمع بأسره.

إن بعض هذه الكُتب العلمية تطرح تحديات كبيرة أمام النشء الجديد حول المفاهيم الدينية والرؤية الكونية، ولذا فهناك حاجة ماسة إلى طرح مماثل في جاذبيته وقدرته على تبسيط الأفكار المعقدة، ولكننا ولشديد الأسف لا نجده متوفرًا في مكتبتنا العربية بل على العكس نجد أن البعض من أصحاب التخصصات في مجتمعاتنا العربية يرفع عصا التخصص في وجه من يناقشهم، ويتعذر البعض الآخر بصعوبة تبسيط الأفكار، وأن مناقشة هذه الأفكار تحتاج إلى مقدمات علمية طويلة ولا يمكن للآخرين استيعابها، وأن عليهم الأخذ بنتائجها، ففهم الفكرة واستيعابها هو من شأن أصحاب التخصص وليس عليهم أن يقنعوا الآخرين بصحة ما توصلوا إليه.

إننا إذا أردنا أن نُحافظ على هويتنا الثقافية بمختلف مكوناتها علينا أن نقوم بتبسيطها وطرحها بلغة مفهومة لغير المتخصص ونبذل جهدًا كبيرًا في تسويق أفكارنا، فلا قيمة للفكر إذا لم ينتشر بين الناس، وبقي في بعض العقول وبعض الكتب التي لا يطلع عليها إلا جمع من العلماء الذي نالوا حظا من العلم والمعرفة.

ومن هنا فلا سبيل أمامنا إلا الخوض في هذا الغمار، وتبسيط الأفكار المعقدة حتى وإن أدى إلى تبسيط مخل بدرجة ما في مفهوم الفكرة، فذلك أمر لا مفر منه والكمال الذي يتوخاه البعض فيما ينشره لا سبيل إلى تحقيقه.

إن المفاهيم والأفكار المنبثقة من العلوم التجريبية ستتمكن من شق طريقها في ثقافات مختلف الشعوب والحضارات، لذا فإن لم نقم بعمل جاد ومحكم لمواجهة هذا التحدي ستتحول ثقافتنا بمختلف مكوناتها إلى موروث ثقافي يهتم به عدد محدد من أفراد المجتمع لا لمحتواه الفكري؛ بل ربما كموروث يُساعدهم في فهم طبيعة أسلافهم.