المجتمع والمؤسسة الرسمية

 

يحيى الناعبي

ymail4040@gmail.com

 

 

في مُناقشة حول جدلية العلمنة.. العقل والدين، دار بين الألمانيان الفيلسوف يورغن هابرماس والبابا جوزيف راتسنغر (بندكتس السادس عشر) أقيمت في الأكاديمية الكاثوليكية بمدينة ميونيخ 2004، وصدر حولها كتاب يضم ورقتي المفكرين وقام بترجمتها المغربي حميد لشهب. لست بصدد الحديث عن مضمون الكتاب.

فقط استخلص الفكرة العامة له حول أهمية الدور التوافقي بين العقل والدين في ظل علمنة المُجتمع الغربي، وأن الدين والعقل ليسا على نقيض كما يعتقد الكثيرون! وقد أشار هابرماس إلى أن العقل والدين قد يندمجان ليشكلا المواطنة الصالحة في أي مجتمع، والمشاركة في العمل على خلق دستور قابل للتطور يتناسب وطبيعة الحياة المُتجددة. بينما التمايز والتقيد بالثوابت القديمة يؤدي إلى فشل توجيه السلوك المتعلق بالقيم والمعايير الاجتماعية.

إنَّ الكثير من الدول سعت إلى خلق نوع من التجانس بين الفهم العقائدي للدين وتصوره نحو العالم الخارجي، وبين تصور المؤسسات في بناء مُجتمعات مُتماسكة مُستندة على أسس المساواة والتقارب بعيداً عن الرؤية "الثيولوجية"، لذلك فالقوانين الوضعية جاءت لتمثل مصالح أفراد المجتمع بالرغم من تعدد ثقافاته وهوياته دون أن تكون لهذه القوانين مرجعيات فقهية عقائدية كي لا يتم احتكارها لمرجعية دينية معينة؛ بل هي تعاليم عامة استخلصتها الحكومات لتمثل قوانينها الوضعية وتطويرها من خلال المعرفة والدراسات الإنسانية، وقد أصبح العالم متجانساً في الوعي والإدراك. وهذا بدوره ساعد في التقارب والتناغم بين أفراد المجتمع دون الرجوع إلى خلفياتهم الثقافية والعقائدية.

فيما يتعلق بتنظيم الأسرة والرعاية الاجتماعية في مجتمعنا المحلي، نجد أن هناك قصور على مستوى سن القوانين والتشريعات التي تحمي فئات أفراد المجتمع، أثر على بنيته المجتمع ونتج عنه تبعات سلبية. معظم الدول تعتبر أنَّ كل مولود هو ابن الدولة، فالأسرة حاضنة طبيعية، ومن ثم في حالة وجود تجاوزات في العلاقة الأسرية كالخلافات الزوجية أو العنف الأسري (Domestic violence)، يكون للحكومة دورٌ صارم في الحفاظ على حقوق الأطفال. مثال ذلك في حالة الانفصال الزوجي، يترتب عليه التوزيع العادل الإجباري، سواء في الحضانة أو توفير المستلزمات والاحتياجات تحت إشراف المؤسسة الرسمية المعنية بذلك. قد نجد وللأسف قضايا كثيرة يستحوذ فيها أحد الأبوين على الأطفال مما يُؤدي إلى خلق مشاكل نفسية واجتماعية ينتهي بهم المطاف ليكون الأطفال عبئاً على الدولة فيما بعد.

ولذا يجب الالتفات إلى هذه الإشكالات وسن قوانين واضحة وضرورة تفعيلها حول حقوق الطفل اجتماعيا ومادياً. ويجب ألا يستهان بهذا الطرح لأنه كلما تمت معالجته مبكرا، استطاعت الحكومة أن تبني جيلا واعداً. ومن الأولويات لأي رؤية مستقبلية كرؤية عمان 2040 مثلا، أن تسلّط الضوء على استثمار الإنسان، وأحد الجوانب الرئيسية لهذه الرؤية كل ما هو معنّي بالطفل العماني، وماذا يتوقع أن يصبح جيل 2020 في العام 2040؟

مثال آخر، هناك بعض الفئات الاجتماعية التي تحتاج إلى تسليط الضوء عليها وقد لاقت غياب دور المؤسسات الرسمية في ذلك. هذه الفئات تتمثل في ذوي الاحتياجات الخاصة، الأيتام، أصحاب العاهات الدائمة، وغيرها من الفئات التي تتطلب الالتفات حولها. وربما بسبب عدم وجود روابط وصلات بين مؤسسات الدولة المدنية وتوفير البيانات المدنية والاجتماعية، وتحديث هذه البيانات على المدار السنوي، غيبت حقوق هذه الفئات. إن التحديث السنوي للبيانات الاجتماعية يسهل تفعيل الخطط الوطنية وتطبيق برامجها. في المجتمعات المدنية تقيس الحالات الاجتماعية واحتياجاتها وتعمل على توزيع فرص عادلة للأفراد ذوي الظروف الخاصة؛ سواء في المعيشة أو الدراسة أو العناية الصحية، وقس على ذلك من الخدمات المتوفرة في الدولة. هناك الكثير من الأسر التي فقدت ربّ الأسرة في حوادث متفرقة، ومن ثم تواجه هذه الأسر عبئا كبيرا في تسيير أمور حياتهم، وكذلك بالنسبة لذوي الاحتياجات الخاصة.

لذلك على المؤسسة الاجتماعية الرسمية بالتعاون مع مؤسسات الدولة الأخرى احتواء هذه النماذج، وأن تكون هناك أولويات معينة لهذه الفئات، في توفير الوظائف وفرص التعليم سواء كان العام أو العالي، وتسهيل الخدمات العامة، لأنَّ قوة المؤسسة الرسمية وهيبتها تتمثل في تمكين الفئات البسيطة والمهمشة والدفع بها. إذا للعودة مجدداً حول التوافق بين الدين والعقل، هو أن تكون التعاليم الدينية حاضرة في المُؤسسات الرسمية بحضور العقل وهو المحدّث لهذا التعاليم والمطور لها وسنها في قوانين وأنظمة، وليست متكلسة في أفواه من يمثلون الوصاية على الأفراد والمجتمع أو الخطب التنظيرية.