ماذا بعد الوقفات؟

 

جمال بن ماجد الكندي 

ما مرت به البلاد مؤخرًا من وقفات مطلبية محقة من فئة الشباب الباحثين عن العمل يحتاج منِّا إلى وقفات ومراجعات في أسبابها وكيفية مُعالجتها بالطرق العلمية السليمة، والعمل لسد أي ثغرة يستطيع من في رأسه شيء الولوج عن طريقها لزعزعة أمن هذا الوطن الغالي.

طبعًا نحن هنا لا نُؤمن إيماناً جازمًا بنظرية المؤامرة في ما حصل من احتجاجات في عُمان وغيرها من البلدان العربية، بالمُقابل لا ننفيها نفياً جذرياً، فبيئة المظاهرات هي مناخ مناسب لمن له مآرب أخرى، للدخول وسط هذه الاحتجاجات والتأثير والتغيير والتخريب في نفس الوقت، وكما نعلم فالربيع العربي بدأ بمطالب اجتماعية، وتحولت بمُساعدة العامل الخارجي إلى لغة تغيير النِّظام.

ما أريدُ قوله إننا لابُد أن نعي ما حصل مُؤخراً، وأن نمسك العصا من المنتصف، ونراجع أنفسنا ونبني استراتيجياتنا للتعامل مع فئة الشباب بحساسية ودقة أكثر؛ فهم عماد ووقود لأي أمة تريد أن ترتقي وترقى بين الأمم، ونعمل على بيان ماذا تعني الدولة؟ وكيف نُحافظ عليها من عبث العابثين؟ الذين تستهويهم مثل هذه البيئة- كما قلنا- للعبث بمقدرات البلد، وزرع الفتن فيها لذلك سأنطلق من هذه البداية.

إنَّ البلدان في تكوينها الديمغرافي تصنف بأنها إما دولة فتية، أو هرمة، وعلى هذا الأساس فإنَّ أغلب الدول العربية ومنها سلطنة عُمان من الدول الفتية، بمعنى أنَّ نسبة الشباب فيها أعلى بكثير من نسبة الذين أعمارهم فوق الأربعين، وأنا هنا لن أدخل في تعريفات علمية دقيقة في تكوين الهرم السكاني، لأني أريد أن أصل إلى نقطة معينة وهي أن نسبة الشباب في مجتمعاتنا العربية هي أعلى بالمقارنة بالمجتمعات الأخرى التي تصنف بأنها هرمة لعدم اهتمامها بقدسية الأسرة التي تخرج منها النواة السكانية.

من هذه الزاوية فالمجتمع الأوروبي مجتمع هرم كما يُقال، ويستقطب العقول والسواعد العربية وغيرها لوجود نقص عنده في الكوادر الشابة المنتجة، وما حصل في سوريا كان منجم ذهب لبعض الدول الغربية. من هنا لابُد أن نعلم أنَّ المجتمع العماني مجتمع فتي، ويحتاج لخطط قصيرة وطويلة المدى، لأن شبابه هم فتيل الشعلة لأي تقدم في البلد.

من هذه القاعدة أنطلقُ وأقول نحن بحاجة إلى تفعيل أكثر لدور مركز التشغيل في السلطنة، المعني بإيجاد فرص العمل للشباب العماني، وذلك بإيجاد مُسمى جديد لهذه المؤسسة لتكون أكثر شمولية من إيجاد الوظيفة للشاب العماني فقط؛ بل أن تكون معنية أكثر بأمور الشباب منذ الصغر وخلال الدراسة وما بعدها، وتربط بسوق العمل واحتياجاته. هذه الجهة تكون جهة إحصائية كذلك تعلم عدد الشباب العماني خلال كل فترة زمنية الذين سيكونون في خانة الباحثين عن العمل بعد تأهيلهم، فتضع الخُطط المُستقبلية لهم من تعليم وتطوير وعمل، وتربط هذه المؤسسة بالجهات الأخرى في الدولة من الوزارات المعنية بأمور التعليم والتشغيل. هذه المؤسسة نستطيع أن نُسميها على سبيل المثال "مؤسسة تنمية الموارد البشرية الشبابية في عمان"، على أن تعمل بشكل مُستقل وذات قرارات نافذة، لا تخضع للبيروقراطية المعطلة، تقوم بإدارة الشباب إدارة علمية عملية تطويرية، تبدأ من المدارس والجامعات، وتوجد آلية ربط معينة بينهما وبين الجهات الحكومية الأخرى المعنية بالشباب.

هذا يعني ربط هذه المؤسسة "إدارة الموارد البشرية" بكل الجهات الحكومية المعنية بتخريج الشباب؛ فهي ستقوم بدور المنسق والمتابع والراسم لسياسات القوى البشرية، وقبل كل شيء لابد لنا أن نعرف ما هي المواقع التي يُراد للشباب أن ينخرطوا فيها؟ ولمُساعدتها لابُد من خلق بيئة التنوع المعرفي في المجتمع العماني، ويعني ذلك تفعيل ثقافة المعرفة المهنية ما بعد الثانوية أو قبلها كما كان في السابق بوجود ثانويات تجارية ومهنية، وصناعية، وإسلامية، وكل ذلك حسب حاجة السوق العماني، وهذا سيُؤدي إلى شغل وظائف مهنية معينة كانت ومازالت حكراً للوافد فقط. الشاب العماني سينطلق من هذه المعرفة التي سيكتسبها لفتح مشاريعه التجارية الخاصة به التي سيكون على دراية بها بسبب المعرفة المهنية. هذا الأمر لا يكون إلا من خلال وضع خُطط مستقبلية تقوم بها "مؤسسة إدارة الموارد البشرية".

ومن ناحية أخرى نحتاج لربط المتفوقين من شبابنا العُماني، وأصحاب المواهب الفذة الذين يفكرون خارج الصندوق بجهة تهتم بهم وترسم لهم طريقاً معيناً تريده الدولة منهم للاستفادة من نبوغهم في شتى المجالات، وهذا ما تفعله الدول المُتقدمة.

ما أريد قوله هنا هو أهمية التركيز على مصطلح "تنمية الموارد البشرية" وتفعيل هذا المعنى ليس بنطاقه الضيق والكلاسيكي- إن صح التعبير- في المؤسسات الحكومية والخاصة، ولكن بما ذكرت آنفاً، وهكذا هي الدول المُتقدمة التي تعلم مدى أهمية فئة الشباب، فهم القنبلة الموقوتة التي إما أن تنفجر في وجهك وتخلق مشاكل اجتماعية، واقتصادية، وسياسية وقد تتطور إلى أمنية، والمظاهرات في مرحلة الربيع العربي دليل ذلك، أو أن تفجر طاقاتها لتنفع الدولة، ولا تكون مصدر قلق لها؛ بل مصدر قوة وأمان، وهذا لا يكون إلا بتنميتها بالطرق العلمية الصحيحة، وخلق الجو المُناسب لها ورسم الخطط السليمة التي تستنبط من حاجات المجتمع العماني الذي تعيش فيه، وقبل كل شيء إزالة فكرة الخبرة التي هي أساس مشكلة الشباب بعد الدراسة التي تقارن مع الوافد وغيره وتكون هي المعيار الأساسي في الأفضلية، ونحن نعلم أنَّ مسألة وجود الوافد هي مسألة اقتصادية، وربما تكون سياسية، وتقليصها يحتاج إلى عمل، وقبل كل شيء تخطيط تقوم به "مؤسسة إدارة الموارد البشرية"، وألا تكون على حساب ابن البلد، فهو من سيبقى وينتج ويرفع اسمها عالياً لا غيره.

ختامًا.. فإنَّ نسبة الباحثين عن العمل في العالم هي من أكبر المشاكل التي تهدد بنية البلدان من الداخل، والنسب تتفاوت بين بلدٍ وآخر، ولكنها تبقى واقعاً معاشاً، وإذا تفاقمت تكون بوابة لأزمات داخلية، وكلما كان التخطيط لتقليلها وفق أسس علمية وعملية سليمة تراعي مقدرات الدول وسوقها وطبيعتها أوجد ذلك الأمن والسلم والرضا المجتمعي، الذي تصنف الدولة من خلاله بأنها من الدول المتقدمة، وعُمان الحبيبة لها مقومات ذلك. حفظ الله عُمان شعبًا وقيادة من عبث العابثين، وحقق لها ما تصبو إليه من تقدم ورخاء تحت قيادتها الحكيمة قيادة سُلطاننا المعظم هيثم بن طارق- حفظه الله تعالى-.