د. صالح الفهدي
جمعني لقاءٌ عابرٌ بأحدِ المُستثمرين الذين افتتحوا مشروعهم الأول، وفي اللقاءِ حدَّثني عن المعوِّقات الكثيرةِ التي واجهها هو وشركاؤه حتى انتهى المشروع، بدءاً من تأخُّرِ اعتماد خرائطِ البناءِ، إلى تغيِّر قوانينَ بعض الجهاتِ أثناءِ البناءِ وتحميلهم تبعات التغيير وهي خارج الحسبان، وليس انتهاءً بتدخِّلٍ جهاتٍ معُارضةٍ لإقامةِ المشروع وإيقافه لعدَّةِ أشهر!!
علينا هُنا أن نكون واقعيين جداً؛ فجذبُ الاستثمار ليس مجرَّدَ عنوانٍ عريضٍ لصحيفةٍ، أو تصريحٍ طموحٍ لمسؤول، وإنَّما هو موضوعٌ لابدَّ وأن تتوفَّر له الإرادة القويَّة لكي يكونَ واقعياً وملموساً على الأرض. وإذا كان الاقتصادُ هو حديثُ السَّاعةِ فإنَّ جذب الاستثمار هو أحد الركائز الأساسية التي يعتمدُ عليها الاقتصاد الوطني، لأنَّه يضخُّ أموالاً في السوقِ المحليِّةِ، وينشِّط الحركةَ الاقتصادية، وينعش –بالتالي- حركة التوظيف، مما يعني ازدهار المجتمع بأسره.
ولنكن واقعيين أنَّه ما لم يكن الاستثمار تحت جهةٍ واحدةٍ لها صلاحياتها النافذة، وقراراتها الحاسمة، فإنه سيظلُّ على حاله لن يتحرَّك: تعقيداتٌ وقيودٌ على أموال المستثمرين، تأخيراتٌ في استخراجِ التصاريح المختلفة، تعقيداتٌ في اشتراطات البناءِ، وتصعيبٌ في تصاريحها، شروطٌ لا تعدُّ ولا تُحصى من أجلِ استثمارٍ ما، فكيفَ يمكنُ أن يُجذَب الاستثمارُ بهذه الطريقة؟ كيف يمكنُ أن يقتنعَ المستثمرون بالإستثمار في ظلِّ شروطٍ معقَّدةٍ، وموظفون يتعمَّدون التأخيرَ أحياناً، وأحياناً أُخرى لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إزاء بعض القوانين؟! كيف يمكنُ أن تتسهل الإجراءات أمام الاستثمار في ظل تشعُّب الجهات المصرِّحة، وازدواجية عملها في بعض الأحيان؟ هذه أسئلةٌ يجبُ أن تتوفر لها الإجابة من أجل أن تتحقق واقعية جذبِ الاستثمار.
الأمرُ نفسه يجب أن يحدث لاستقطاب الاستثمار المحلي بتوفير البيئة الجاذبة، وتيسير إقامة المشاريع، فالقيمة العظيمة لقيام مشروع وطني هي أكبرُ وأعمقُ أثراً من رسومٍ تفرضُ عليهِ قبل أن يقومَ من مقامه! يقول الكاتب خلفان الطوقي: "فرص العمل لن تزيد ولن تتضاعف في المستقبل، إلا بتوسيع رقعة الاقتصاد، وإيجاد آليات وحوافز مساندة وداعمة للمستثمر المحلي- أولاً- وأن يتوسع في نشاطه التجاري، فبدلاً من أن نزيد من الرسوم المالية عليه سنة بعد سنة، ونفرض عليه قيودًا وتشريعات وغرامات، علينا أن نُسهّل عليه عمله، ونقنعه بأن يزيد من استثماره، ويوسع ويضاعف نشاطه التجاري، ومن ثم- ثانيا- نقنع المستثمر الخارجي بأن يأتي إلى السلطنة، ليجد أنَّ السلطنة أرضاً خصبة وديناميكية والواجهة الأنسب للاستثمار، وهذا يتطلب من الحكومة تحويل كل الشعارات الجذابة إلى تطبيقات ميدانية وخطوات عملية ملموسة".
إن تحويل عنوان "جذب الاستثمار" من عنوانٍ كبيرٍ طموحٍ إلى واقعٍ ملموس لن يتأتَّى إلاَّ بمؤسسةٍ مركزيةٍ لها قوة نافذة في تسهيل الاستثمار، تتوفرُ فيها كفاءات ميسِّرة، منفتحة على الأفكار، لا تعترفُ بالمعوقات في عملها، وإنما تقدِّم التسهيلات بأقصى ما تستطيع، تُجمع كل الصلاحيات بيدها، فيكون لها القرار النافذ في تسريع الاستثمار، ومعالجة كل إشكاليةٍ تواجهه، وبهذه الطريقة ستتحرك قاطرة الاستثمار سريعةً لا تتوقف. في حوار برايان جريفز، القائم على مجموعة جولدمان ساكس (Goldman Sachs Group) وهي مؤسّسة خدمات ماليَّة واستثماريَّة أمريكيَّة متعددة الجنسيَّات، تُعدّ من أشهر المؤسسات المصرفيَّة في الولايات المتَّحدة والعالم، سُئل: هل هناك أى نصيحة توجهها لمُساعدة السياسيين على خلق بيئة خصبة جاذبة للاستثمار الأجنبي؟ فقال: يمكنني وضع قائمة بالقواعد التالية التي أُرشحها لهم:
1. إذا قلتَ إنك تنوي فعل شيء ما، قم بالتنفيذ والتزم به، وإلا فلا تقله.
2. لابُد من ضمان وحدة الحكومة في صوت واحد فقط.
3. حدِّد أهدافكَ لتحقيق معدل تضخم منخفض وأبداً فى السعي لبلوغ هذه الأهداف.
4. التزم بإصلاحات السوق المفتوح علانيةً، وبجدولٍ زمنيٍّ للإصلاح. الإصلاح مؤلم، ولكن الناس سيقبلون بألم مؤقت إذا ما رأوا المكسب على المدى الطويل.
5. امنح الناس الأمل عندما تفرض قرارات قاسية حتى تحفزهم وتشجعهم على التنفيذ مثل حوافز خاصة بالانتقال لمجتمعات جديدة، وحوافز، بدء مشاريع جديدة.
6. تأكد من حسن نظام قطاع البنوك، فالأسواق الجديدة تحتاج لمعايير ومقاييس مرتفعة وليست منخفضة. إن الاستثمار الأجنبي هو تصويتٌ بالثقة فى سياسات الدول، ولهذا فإنَّ المهم فى النهاية هو هذه السياسات نفسها.
أخلصُ إلى القولِ بأن الاستثمار إنما هو أفعالٌ تتحدثُ عن نفسها بألسنةِ المستثمرين (المحليين والخارجيين)، أولئك الذين يُعدُّون مصادرَ لتنشيط الاقتصاد، وتفعيل كل مساقات العمل في البلاد، وهو ركنٌ رئيسٌ للتنمية المزدهرة في أية دولة، لهذا فإنَّ وضعه موضع الاهتمام يقتضي عمل كل ما تستطيعه الحكومة لتحويله إلى واقعٍ جاذب" بحيث يكون دور الحكومة- كما يقول المكرم حاتم الطائي في مقالته الأسبوعية كل أحد- تسهيل كل الإجراءات تحت شعار "دعه يعمل"، فالقطاع الخاص- كما يضيف- "أرهقته البيروقراطية وباتت بيئته مُثقلة بالقوانين والقواعد التنظيمية المُتشابكة التي لا تتسبب سوى في عرقلة عمل الشركات وإعاقتها عن النمو، ومن ثمَّ ضعف قدرة القطاع الخاص على توظيف الباحثين عن عمل".
إن الاستثمار مؤشِّرٌ تنمويٌ يدلل على مدى فاعلية سياسة الحكومةِ في تنشيط الاقتصاد، ونحن متفاؤلون بحراكٍ اقتصاديٍّ قادمٍ ستكون له آثاره الإيجابية على الوطن.