التجربة الأسترالية في التوظيف

يحيى الناعبي

بعد 10 سنوات من الاحتجاجات الشعبية العُمانية التي تزامنت حينها مع الثورات العربية، والتي أدت إلى زوال دول من الخارطة السياسية، وأصبحت ملاذا للجماعات المُتطرفة وبيئة خصبة لتنفيذ أجندات سياسية مُعقدة، وطرد وتهجير من بقي من أصحاب الأرض، بعد أن دُمرت البنى التحتية لتلك الدول، نجد أن ما يحدث الآن في ميادين مختلفة في السلطنة هو نتاج تراخٍ مؤسسي، لم يستغل تلك الفترة لمُعالجة الأمور، من أجل تجنب تكرار ما حدث، وما أتمناه الآن هو أن يهدأ الجميع للوصول إلى عمل جاد وفعلي لإيجاد وظائف لمن ليس لديه وظيفة وبناء مجتمع متكافئ.

حول التجربة الأسترالية

طوال 8 سنوات كنتُ ولا أزال مراقبا لديناميكية الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مجتمع مترامي الأطراف في القارة الأسترالية، إذا رفعنا التكلفة في التصنيف بين ما يُسمى الدول المتقدمة والدول النامية، نزولًا إلى الإنسان الفرد والمجتمع، نجد أن هذه الدول تكونت عبر هجرات من دول العالم كافة، لتسكن تحت مظلة قانون واحد يجب الحرص على اتباعه، كما يجب الحرص على أخذ الحقوق. وبالتالي أصبح كل شيء واضح عند الفرد؛ ما له وما عليه. وساعد في ذلك استغلال التكنولوجيا، فلم يعد المُقيم في حاجة إلى مُراجعات شخصية عند المُراجعة لأيِّ مهمة لا تتطلب الحضور الشخصي؛ بل هي استمارة يجب تعبئتها، واستيفاء شروطها ليتم قبولها. لذلك اقتصرت المراجعات على نماذج قليلة جدا كالمراجعات الطبية بعد أن تكون قد تيقنت من موعدك إلكترونيًا عبر موقع إلكتروني مخصص لذلك.

هذه الخدمات جعلت نسبة التعامل مع الموظف قليلة جدًا، وبالتالي جنّبت المشاكل والقضايا القائمة على الاحتكاك بين المراجع والموظف. وأصبح الموظف يعي دوره تمامًا؛ فهو حاله حال غيره من الموظفين، مهما علت أو نزلت سلّم رتبهم، واختفت تلك النظرة من "الأنا" التي يمنّ بها على المراجعين؛ بل أكثر من ذلك، فهو حريص على أن ينجز عمله بإتقان؛ وذلك بسبب أن غالبية المؤسسات الحكومية أو الخاصة تضع مقاييس واستبيان في الموقع الإلكتروني بعد كل مُعاملة، يُقيّم فيها مقدِم المعاملة سرعة وسلاسة إنجاز مهمته، وهذا بالطبع يُؤثر على الموظف القائم على المُعاملة في الجهة الأخرى.

ثمَّة حسنة أخرى وهي أن المواطن صاحب المعاملة هو من يُقيّم الموظف الذي ينجز له مُعاملته غيابيًا (إلكترونيًا)، وبالتالي أصبح الموظف خارج نطاق هيمنة المسؤول عنه في التقييم، والتي غالبًا ما يُعاني من ظلمها الموظفون بسبب؛ التحيزات والاستثناءات التي يتبناها المسؤول لبعض الموظفين دون الآخرين.

تجربة العمل في أستراليا في معظمها قائمة على التوزيع المتكافئ، وأن للجميع الحق في العمل ومن حق المواطن أن يُغيّر في عمله طالما أنَّه مؤهل لذلك العمل دون شروط أو تعقيدات، وقد يطول الشرح في ضرب الأمثلة حول آليات الانتقال من عمل إلى آخر، ولكن سأختصره في تحقيق الشروط؛ فطالما قد تحققت الشروط، فلك الحق في تغيير العمل. وهذا بالطبع غير موجود إلّا الندرة في دول العالم الثالث؛ لذلك وبالطبع يُؤثر على سرعة وجودة العمل؛ حيث تجد الموظف متكلسًا لسنوات طويلة في مهنة واحدة قد تكون أحيانًا تفوق قدرته الذهنية والجسدية بسبب؛ التقدم في العمر والروتين الذي يؤدي إلى الرتابة.

حافظت أستراليا على التمسك والمُراهنة على توسعة ما يُعرف بالطبقة الوسطى، والجميع يعرف دورها كركيزة أساسية في استقرار المجتمع وتلعب دورًا في التنمية؛ لذلك جاء نظام الضريبة ليُحافظ على هذه الطبقة، وقد نجحت نجاحًا باهرًا حتى مع مُعاناة وما تكبدته الحكومة مع وباء الكورونا، لكنها كانت منضبطة وحافظت على حل المشكلات التي نتجت عن تأثر الاقتصاد، وتوقف العمل في الكثير من الشركات العملاقة كشركات الطيران وغيرها.

والضريبة التي تُفرض على الجميع ولكن بنسب مُتفاوتة؛ حيث إنَّ الضريبة مُتعلقة برواتب الموظفين، فتجد أن هناك سقف معين حددته الحكومة لمجموع رواتب الموظف طوال السنة إذا زاد عنه تؤخذ منه نسبة، وبالتالي فكلما زاد الدخل السنوي زادت الضريبة. قد يقول قائل: إن هذه الطريقة هي إجحاف في حق الموظف، ولكن الحقيقة هي تذهب للخدمات العامة والحدائق والمرافق الصحية والتعليمية وغيرها، أيضًا لذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة والشؤون الاجتماعية، للباحثين عن عمل وبالتالي ما اقتطع منك استفدت منه في الخدمات المقدمة، واستفاد منه أهلك وذووك، وربما أنت من يستفيد لو تعرضت لأي عارض في الحياة أقعدك عن العمل ستخصص لك الحكومة راتباً يجعلك في حلٍّ من التسول وغيره. أيضًا يُشجع المواطن على المطالبة بحقوقه؛ لأنه أصبح شريكًا مع الدولة في الإنفاق على الخدمات العامة والاقتصاد، وأيضًا حريصًا عليها؛ لأنه مُساهم رئيسي فيها، ويصبح له الحق في الاستفسار والسؤال عند إخفاق الحكومة تجاه حقوقه العامة. هذا الجانب يخلق توعية عملية تشاركية وليس نظرية بالشعارات والنصح، اللذين قد لا يكونا فاعلين طالما أنك لم تُساهم فيهما فعلياً. بالتالي كثرت الخدمات كالحدائق والمتنزهات وأماكن الترفيه العامة وتقلص التمايز والطبقية. طبعاً الآلية القائمة على هذا التنظيم في غاية البساطة ولكن في غاية الوضوح للمواطن والمقيم، وهذا بدوره يخلق الاطمئنان والأمن والأمان بين السكان.

عندما تقيم في مجتمع متعدد الثقافات ولكنه حاضن لقانون واحد مُحصّن يؤمن لك طريقك في الحياة العملية والمعيشية والاجتماعية، فهذا يُمثل النجاح والسيطرة. على عكس عندما تتيسر لك الظروف تحت مظلة ثقافة واحدة ولكن للأسف غياب القانون المحصّن الذي بسببه تفقد الدولة مدنيتها وهنا أقصد مدنية التحضر الأخلاقي وهيبتها. وينتقل التعامل في ظل غياب القانون المحصن من الوضوح والعلن إلى نفق الضمائر المظلم، ومن له أن يُحاكم الضمير سوى علّام الغيوب. بالتالي فإنَّ الدول القائمة على القوانين الواضحة والصريحة التي تسري على الجميع مهمتها أسهل من الأخيرة.

عند العودة إلى مجريات ما يحدث في سلطنة عُمان، فإنَّ النظر إليها عن بُعد، وبعد الخوض في آلية المجتمع المتمدن (السياسي والاجتماعي والاقتصادي)، نجد أن عُمان تمثل مقاطعة من حيث تعداد السكان مع فارق الثروات والمكتسبات التي تمتلكها، وتقترب أكثر لتجد أن الاحتجاجات هي في غير محلها؛ بل على العكس هي تُعبّر عن رجعية على مستوى إدارة المؤسسات؛ لأنَّ العالم اليوم احتجاجاته ووقفاته حول تغيير المناخ وآثاره، أو حول المنافسة في امتلاك الأسلحة النووية والبيولوجية، حول حقوق الحيوان وغيرها من المواضيع الاحتجاجية لهذا العصر. بينما تتحدث عن دول بمقومات سياحية، بيئية، جغرافية وموارد أحفورية، من غير المنطقي وأن الخلل بسيط جدا يتمثل في آلية الإدارة لا أكثر.

وهنا أتطرق إلى بعض الأمثلة ونناقش الحلول حولها:

قبل سنوات كان هناك طرح حول كثرة كليات الهندسة في مُحافظات السلطنة وأن هناك تضخمًا كبيرًا في عدد الباحثين عن عمل في مجال الهندسة بمجالاتها المختلفة، والحقيقة أن خطة الوزارة كانت صحيحة، لكن آلية توفير العمل ضعيفة جدًا، بالرغم من متطلباتها المادية اليسيرة مقارنة مع المشاريع المليونية التي تذوب مع شمس كل صباح. فمثلاً ماذا لو حوّلت تلك المدن الصناعية في محافظات السلطنة إلى ورش ضخمة مُكيفة تُقسم إلى أقسام لورش تضم الخريجين في ميكانيكا السيارات، وورش النجارة، والحدادة وغيرها؛ لأنه من غير المنطقي والمخالف لحقوق الإنسان أن تطالب المواطن أن يعمل تحت درجة حرارة تصل إلى خمسين درجة مئوية. أيضًا يكون ريع إيجار هذه الورش للدولة، ويكون الإيجار في البداية رمزياً، مع الشرط وهو أن يكون التعامل بين الزبون وأصحاب الورش العُمانيين ببطاقة الصرف عند الدفع وليس نقدًا، حتى يتسنى للدولة معرفة دخلهم المادي بحيث تستطيع الدولة تقييم وضع هؤلاء الشباب ماديًا وأيضًا من أجل الدفع بهم نحو الاستثمار مع أقرانهم من الخريجين. كم من الآلاف ستستوعب هذه الورش المُكيفة من هؤلاء الشباب وتدفعهم إلى العمل، بدلًا عن المكوث في منازل أهلهم يمثلون عبئاً اجتماعياً واقتصادياً وأمنيًا.

وبالنظر إلى الوظائف الإدارية، فمن خلال التجربة الأسترالية، وجدت أنَّ الدولة توفر لك العمل بحيث تعيش مُكرمًا معززًا لا تمد يدك لأحد عن طريق الأعمال بالتجزئة؛ فمثلاً الوظيفة التي كان يقوم بها شخص واحد قبل تقاعده، توزع على شخصين لكلاهما ثلاثة أيام ونصف اليوم وهذا حتى لا يقبع الشاب في بيته سنوات، وأيضاً يصقل مهاراته في العمل، ويكتسب خبرات عملية، ومن ثم عبر انتعاش الاقتصاد بهؤلاء الشباب تزداد فرصهم في العمل ورواتبهم.

أنا هنا بصدد طرح مثال قابل للتطوير، وكم سيكون عظيمًا لو كانت هناك آلية في التعامل مع الرواتب القليلة على مستوى تخفيف نسب الضرائب عليهم في السلع والخدمات. مثلاً، في أستراليا، العاطل عن العمل أو الطالب تكلفة تذكرتهما في المترو أو القطار تصل إلى الربع أو أقل عن الموظف العادي، طبعاً قد يتساءل الآخر عن كيفية السيطرة على هذا الموضوع، والإجابة من أسهل الأمور وذلك عبر وضع مخالفات على من يُحاول استغلال وضعه الذي منحته إياه الحكومة في التحايل على القانون. ما نحتاج إليه في عُمان هو التنظيم والرقابة وتطبيق القانون بصرامة، وما يحدث الآن لا يجب أن يكون، خاصة أن العالم في تسارع نحو إيجاد الحلول للكوارث الكونية عبر البحوث والدراسات، ودعم المشاريع والتجارب البناءة، ونحن نعود بعد خمسين عاماً من التعليم إلى المربع صفر.

مثال آخر: بالرغم من الاقتصاد المتأثر بسبب كورونا، لكن طلبة المدارس المتوسطة وما بعدها لم يتنازلوا عن توفير الوظائف لهم في أيام العطل الدراسية، وتمَّت الاستجابة لهم من قبل الحكومة؛ لأنها عودتهم على هذه المبادرة الخلّاقة التي تزرع فيهم حب العمل والاعتماد على النفس، هذه دول تجتهد في صنع الإنسان، لذلك أتمنى أن تكون تجارب هذه الدولة تلامس دولنا، ومن المؤكد أن الدول لا تقوم إلا بشعوبها.  فكيف لعُمان التي ضربت في تاريخها أمثلة على الإنجاز حضاريا، ألا تستفيد من طاقتها الكبرى (شبابها)، وهم المؤهلون لصنع مُستقبلها، وفي المُقابل هناك زمرة بسيطة ترغب في أن تستأثر لنفسها طمعاً وأنانية. هناك الكثير من الحلول يمكن الحديث حولها ولكن مقام الكتابة ضيق، والتي لا أنسبها لنفسي ولكني عزّت عليَّ النفس أن تكون التجارب الناجحة بعيدة كل البعد عن عُمان.