د. صالح الفهدي
رأينا الديمقراطية في أزهى صورها، وأنقى تجلِّياتها في الحربِ الأخيرةِ على الفلسطينيين، والعدوان السافرِ على غزَّة؛ رأيناها في شتى الصُّور ماثلةً لا تحتاجُ إلى شاهدٍ أو برهان؛ بدءًا من الفيتو الأمريكي الذي يصوِّتُ لصوته، بولاءٍ أعمى لهذا الكيان المارق، المنفلتِ من ربقةِ الشرعية القانونية ناهيكم عن الشِرعة الإنسانية، وسمعنا أنقى عبارات الديمقراطية على رئيس العدو الصهيوني "نتنياهو" وهو يقدِّم لأكثر من سبعين سفير دولةٍ صورةَ الدولة الديمقراطية وما تمارسه جماعاتٌ إرهابية عليها، ويصفُ ذلك بأنهُ عدوانٌ على ديمقراطيات العالم، مقدِّما دروساً عظيمةً في الديمقراطية!!
لا أعتقدُ أننا بحاجةٍ هنا أن نستقطعَ وقتاً من جهودناً وجهود قرَّائنا للتعقيبِ حولَ هذا الابتذال الإنساني الذي يمارسهُ رئيس الكيان الصهيوني ليقلبَ موازين المنطق العقلي رأساً على عقب، لأنَّ دول العالم تعلمُ يقيناً حقيقةً افتراءاتهِ، لهذا لن يسلم من لعناتهم ومقذوفات شتائمهم وهم يولُّونه ظهورهم!
رأينا الديمقراطية في التعليقات الخجولةِ كالعادة الصادرة من منظمة العفو الدولية تدعو لتحقيق دولي في مجزرة ارتكبتها إسرائيل، وقد بدا ذلك باهتاً فمنذ عقودٍ ونحنُ نسمعُ هذه التصريحات الخجولة التي تخرجُ لمجرد لفتِ الأنظار على أنَّ هناكَ ما يسمَّى بـ "منظمة العفو الدولية" و"محكمة الجنايات الدولية" ليس أكثرَ من ذلك!!
رأينا الديمقراطية ماثلةً في صمت "العالم الحُر" الذي فرض العقوبات الفورية على روسيا لأنها استردَّت جزيرة القِرم التي كانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية منذ عام 1783 حتى 1954، لكنَّه رفعَ يديهِ عن عربدةِ إسرائيل بعد أن منحتها بريطانيا الحق في إنشاء"وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين، فيما يسمَّى (وَعْدُ بلفُور أو إعلان بلفُور) عام 1917، وكانت آنذاك منطقة عُثمانية ذات أقليّة يهوديّة (حوالي 3-5% من إجماليّ السكان).
فأي تناقضٍ هذا بين إدانةٍ وعقوباتٍ صارمةٍ على روسيا وهي تعيدُ قطعةَ أرضٍ كانت تابعةٍ لها، وبين غرس كيانٍ غاصبٍ وإطلاق يدهِ وآلاته لتهجير سكَّانه، وإبادة شعبه!!
هذه الديمقراطية هي ما يصفها الأديب الإنجليزي جورج برنادشو بقوله "الديمقراطية هي جهاز يضمن عدم عيشنا أفضل مما نستحق"..! فهي من هذا المشهد مجرَّد أكذوبة، أو خداع، أو تمويه الشعوب، فالذي يترأس أمريكا ليس ديكتاتوراً لأنه يرأس أعظم إمبراطورية ديمقراطية في العالم، بل هو ديمقراطي حتى النخاع، حتى أن ديمقراطيته العالمية تمنحه الحق في أن يطلق على ما شاء بـ"الدول المارقة" أو "مثلَّث الشر" ويجوز له أن يخلع من شاءَ من رؤساء أيَّة دولةٍ لا يتوافق مع مصالحه، ولا يرضخ لأوامره بحجَّة أنَّه ديكتاتور، بينما رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ليس ديكتاتوراً حين يغزو الشعوب، ويدمِّر مكتسباتها، ويجعلها بؤراً للإرهاب..! ليس ديكتاتوراً حين يأمر حكام الولايات الأمريكية بنشر الحرس الوطني للقضاء على المظاهرات الناشئة بسبب عنصريته..! ليس ديكتاتوراً حين يحرِّض المتطرفين الأمريكان لتحويل بيت الشرعية الأمريكية إلى حظيرة مواشي بعد أن حطَّموا أسوارها، بل بُرِّأَتْ ساحته من قِبل مجلس الشيوخ لأنه رئيس ديمقراطي..!!
لا يحق لأي أحد أن يسرق نصر المقاومة في فلسطين بحجَّة أن الديمقراطية هي التي ضغطت على الكيان الصهيوني لإيقاف الحرب، ومع أننا نعترف بوجود تحوُّلات على مستوى بعض المشرِّعين الأمريكان ومنهم أعضاء ديمقراطيون مؤثرون في الكونجرس الأمريكي، ولكن التحوُّلات في الأرض هي التي أجبرت إسرائيل على طلب وقف الحرب من طرفٍ واحدٍ، فالتطوُّر المذهل لسلاح المقاومة وتكتيكاتها هي التي فرضت على إسرائيل أن "تخضع" معلنةً موافقتها على إيقاف الحربِ، نظراً لما تعرَّضت له من هزَّاتٍ عنيفةٍ لم تتعرض لمثلهِ في تاريخها الغاصب!.
المقاومة الفلسطينية هي من حدَّدت المسار السياسي، وبغضِّ النظر عن المكاسبِ على الأرض فإنِّ مشهد دخول الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى وهم يهتفون "الله أكبر" في وجوه جنود الاحتلال يلخِّصُ مشهد النصر، وهو مشهدٌ يؤسس لما بعده، فقد بدأت معالمُ النصر الكبير، وتحرير المسجد الأقصى تلوحُ في الأُفق الوضَّاحْ.
وإذا كانت هناك جهودٌ لا تُنكر، واتصالاتٌ يجبُ أن تُذكر من أطرافٍ مختلفةٍ إذ كانت المواقف العربية والإسلامية على المستويين الشعبي والحكومي أفضلُ بكثير عن السابق فإنَّ ما فرض إيقاف العدوان الإسرائيلي على غزَّة هو تلك المقذوفات والرشقات الصاروخية على مدن وأهداف استراتيجية إسرائيلية، والخسارات الاقتصادية الفادحة التي تعرَّضت لها إسرائيل، فمن يصدِّقُ أن إسرائيل التي حصدت أرواح أكثر من ألفي شهيد في غزة عام 2014 وعربدت (51) يوماً فيها أن ترضخ للإتصالات الستة من الرئيس الأمريكي لإيقاف الحرب؟! ومن يصدّق قول بايدن أنه اتبع طرقاً مختلفةً لإيقاف الحرب وقد كان نائباً لأوباما في الإدارة الديمقراطية التي غزت فيها إسرائيل غزة المرة السابقة؟! ومن يصدِّق أن الإنتقادات الداخلية في إسرائيل هي التي أجبرت نتنياهو على إيقاف الحرب؟! كل ذلك كان مجرَّد تغطية، فقد سمعنا مقولة أن أمريكا حتى ترى التفوق الإسرائيلي تبرِّره بحق إسرائيل للدفاع عن النفس، وحين تراها متأزِّمةً تدعو إلى التهدئة وضبط النفس!!
ما نراهُ الآن هو أنَّ الموقف البطولي الأخير للشعب الفلسطيني الصامد شعباً وفصائل سيحدد ملامح خارطة الطريق، ولن ترسمها أيَّة اتفاقيات كاذبة مع إسرائيل، فهذا الكيان قد برهن أنه كيانٌ غادر لا يُمكن أن يتحقق سلامٌ على يديه، تصدق عليه عبارة "ما أخذ بالقوة لا يُستردُّ إلاَّ بالقوة" .. وتصدق فيه أشعارُ شوقي:
وَمَن يَسقى وَيَشرَبُ بِالمَنايا
إِذا الأَحرارُ لَم يُسقوا وَيَسقوا
فَفي القَتلى لِأَجيالٍ حَياةٌ
وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ
بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ