"ليل مسقط"

د. محمد بن عوض المشيخي

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

ليل مسقط الرمضاني الجميل ونهارها المشرق يجذبان الأنظار والأفئدة، فهذه المدينة الحالمة المُطلة على بحر عُمان، واحدة من أجمل المدن في العالم من حيث معالمها التراثية والثقافية والدينية، وحملة الفكر والتنوير من شخوصها المعروفين. ويُشكل جامع السلطان قابوس الأكبر بمآذنه الخمس واستيعابه أكثر من عشرين ألف مصلٍ وطرازه المعماري الإسلامي؛ أهم معلم من معالم هذه العاصمة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة. بينما تأتي جامعة السلطان قابوس بكلياتها(9) وحرمها الجامعي الفريد مشكلة بذلك لوحة معمارية مميزة، ويكتمل الثالوث الذهبي لمسقط، بدار الأوبرا السُلطانية الذي اختارته وزارة الإعلام ليكون مكاناً لضيوف برنامج "ليل مسقط".

لقد وفق تلفزيون سلطنة عمان باختيار طاقم البرنامج، وكذلك الضيوف الذين يملكون ذخيرة من المعلومات والأسرار التي لم يُكشف عنها من قبل. ويميز هذا البرنامج المثير للجدل عدم وجود رقابة مباشرة، لذا يجب التذكير هنا بأن فكرة ومواضيع البرنامج لم تكن جديدة، بل هناك نسخ عديدة سبق أن شاهدها الجمهور، ولعلنا نتذكر النسخة الأولى لـ"فوانيس الوصال" وكذلك "على السحور"؛ اللذان يعتمدان على محاورة الوزراء والمستشارين.    

فليل مسقط خطوة موفقة خاصة إذا عرفنا أن معظم القنوات العربية قد تراجعت في تقديم برامج ناجحة تعبر عن رضا الجمهور كما جرت العادة في هذا الشهر الكريم. وكذلك قلت البرامج ذات الطابع الثقافي عبر الشاشة الصغيرة. فبعد أن توقف برنامج (خواطر) الذي كان ينتظره المشاهد العربي من المحيط إلى الخليج على شاشة (MBC1)؛ غابت عن شاشاتنا البرامج الجذابة والمشوقة التي يحرص معظم الناس على متابعتها في رمضان. صحيح أن أحمد الشقيري رجع الآن إلى شاشة مركز تلفزيون الشرق الأوسط عبر برنامج جديد شبيه ببرنامجه سابق الذكر، واسمه (سين)، ويبث بعد أذان المغرب بتوقيت السلطنة، ولكنه يُركز على القضايا المحلية السعودية بشكل ناقد وسلس فقط.

من هنا أتى برنامج "ليل مسقط" ليُعيد الجمهور العُماني إلى شاشته المحلية؛ فهو البرنامج الأكثر مشاهدة هذا الموسم بلا منازع على المستوى المحلي، حسب متابعتنا اليومية للناس؛ لكونه صادف هذه السنة الحظر المنزلي، ووجود الناس في بيوتهم. فقد استطاع الإعلامي المُبدع موسى الفرعي أن يكشف ما يدور في ذهن ضيوف "ليل مسقط" من أصحاب المعالي الوزراء الذين يمسكون بمفاصل الاقتصاد والأعمال وقطاع الاتصالات والتخطيط العمراني، وذلك بعد مرور أكثر من 250 يومًا على الجلوس على كرسي الوزارة وليس مائة يوم فقط؛ والتي تُعد من المقاييس العالمية للإنجاز وقطف ثمار الخطط، أو ما يُعرف بخارطة الطريق المفترضة للعمل المطلوب إنجازه. ولكن ما كشفت عنه الصدور، وباحت به الألسن أقل من توقعات الرأي العام، بل صدم البعض؛ خاصة المتفائلين الذين يطمحون لإطلاق قمر اتصالات صناعي لتقديم خدمة الإنترنت مجاناً للشعب مثل رواندا. وكذلك حلحلة ملف الباحثين عن عمل الذي يُرحل ويُؤجل من فترة إلى أخرى، دون ظهور نور في نهاية النفق. أما تنويع مصادر الدخل واستثمار الموارد غير النفطية؛ خاصة ما يُعرف بالاقتصاد المعرفي والاستفادة من أصحاب الأفكار والعقول من مخرجات الجامعات، وإنشاء المصانع والاستثمار في القطاعات الواعدة، خاصة المعادن والسياحة، فلم نسمع ما يثلج صدورنا حتى الآن.

إن تسليط الضوء على الشهادات التي حصل عليها الضيوف من أعرق الجامعات الغربية؛ لم يحقق طموحات المشاهدين الذين يتسمرون أمام الشاشات لعلهم يسمعون خبراً ساراً يُسعدهم ويقدم حلولاً للأزمات التي تمر بها السلطنة. يبدو لي أن هناك فجوة كبيرة بين إنجازات أصحاب الشهادات العُليا، وطموحات الشارع العُماني الذي كان ولا يزال يثق بقيادته الحكيمة التي اختارت هذه القامات الوطنية، عبر إجراء المقابلات، وتمحيص الشهادات لوضع الشخص المناسب في المكان المناسب؛ بهدف نقل هذه القطاعات التنموية نقلة نوعية لتنتشل السلطنة من الأزمة الاقتصادية، وخيمت بظلالها على الجميع في هذا الوطن العزيز.

هناك من يعتقد أن هؤلاء الوزراء الذين أثبتوا جدارتهم في قطاع الشركات الحكومية والخاصة؛ قبل الوصول إلى المنصب الجديد الحالي، يحتاجون لوقت أطول قبل الحكم على ما أنجزوه في الثمانية أشهر الماضية التي شغلوا فيها هذه المناصب. ولكن حب الظهور في سائل الإعلام، والحديث بإسهاب عن النفس، خاصة التدرج المنطقي في السيرة الذاتية، والجامعات التي درسوا فيها أغرى هؤلاء، ولكن في نفس الوقت وضّح الفجوات بين ما هو منجز، وما يتوقعه المجتمع منهم في هذه المرحلة التي تعيشها السلطنة.

ولعل ما كشفه الوزير المتقاعد المخضرم يوسف بن علوي بن عبدالله لبرنامج "ليل مسقط" عن "ربيع عربي ثان" ستشهده المنطقة العربية، وليس ربيعًا واحدًا فقط كما توقع بعض الخبراء في عام 2022، قد زلزل مراكز الدراسات الاستراتيجية المتخصصة برصد الرأي العام العربي من المحيط إلى الخليج، بل وحتى صناع القرار في بعض الدول العربية التي غاب عنها رياح التغيير، والأسباب الجوهرية للأحداث التي شهدتها معظم الدول العربية قبل عشر سنوات؛ وعلى وجه الخصوص النسخة الأولى من الربيع العربي عام 2011. فالأسباب التي جعلت الشارع العربي يثور وينفجر على الأنظمة الحاكمة، ومحاولة كسر سلاسل الظلم والطغيان، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية المتمثلة في إعادة توزيع الثروة على المحرومين، ومنح المواطن العربي حياة كريمة وفرص عمل للشباب؛ لا تزال في صدارة المشهد العربي ولم تتحقق حتى الآن. لقد انتشرت تنبؤات بن علوي عبر شاشات وسائل الإعلام العالمية والعربية على حد سواء، مثل: شبكة (CNN) وقناة الجزيرة، كما تصدرت أقوال رئيس الدبلوماسية العُمانية السابق، العديد من الوسوم في منصة "تويتر" من رواد وسائل التواصل الاجتماعي في بعض الدول التي تخشى من الاضطرابات والأثار المدمرة على تلك الشعوب، خاصة الحكومات التي وقفت بحزم ضد الربيع العربي قبل عقد من الزمن.

لا شك أن أحوال الشعوب العربية لم تكن أفضل حالاً عن السابق، فالمسؤولون العرب لا يدركون حجم هذه المشكلة الاقتصادية بالدرجة الأولى على المواطن العادي. فهذا الواقع يُذكرني بمقولة ملكة فرنسا في القرن الثامن عشر للميلاد ماري أنطوانيت التي قالت عشية ثورة الجياع في فرنسا: إذا لم يجد الجياع الخبز فلياكلوا البسكويت.

هناك اعتقاد لدى البعض بأن ثورات الشعوب العربية تمشي على وتيرة ونسق ما حصل في أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي، خاصة الثورة البريطانية والفرنسية، وذلك لتشابه الأوضاع السياسية والاقتصادية في المكانين.  

وفي الختام.. الآمال معقودة على صناع القرار من أعلى الهرم في هذا البلد، للتعجيل بحلحلة بعض الملفات الساخنة؛ كتوظيف الباحثين عن عمل، خاصة الذين في قائمة الانتظار منذ أكثر من 10 سنوات، وكذلك العمل على الاستثمار الأمثل للثروات الطبيعية غير النفطية، وتهيئة المخصصات المالية التي تساعد على استخراج هذه الكنوز التي تحتضنها جبال وأودية السلطنة.