خالد بن الصافي الحريبي
كلما سمعت حواراً عن التعليم كلما زدت يقيناً أنَّه الخيط الرفيع الفاصل بين المجتمعات المستنيرة والمطمئنة، ومجتمعات الفقر والمرض والجاهلية. وفي هذه الأيام المباركة، ونحن نستعيد ذكرى الدروس المستفادة من غزوة بدر الكبرى في السابع عشر من شهر رمضان المبارك من السنة الثانية للهجرة، أنها قدمت للإنسانية بصورة عامة، ولنا بصورة خاصة أهم مبدئين في أولويات القيادة، وهما الشورى حين استشار الرسول عليه السلام كرأس الدولة الإسلامية الوليدة في المدينة الصحابة في مصير أسرى قريش، وثانياً قيمة التعلم عبر ابتكار مبدأ فِداء بعض هؤلاء الأسرى؛ لأنفسهم لِقاء تعليم كلٍ منهم القراءة والكتابة لـ 10 من أبناء وبنات المسلمين.
ولله الحمد؛ التعليم يأتي ضمن أولويات رؤية "عُمان 2040"، وتخطو برامج وطنية رائدة عالمياً، كالبرنامج الوطني لتنمية مهارات الشباب بِمَساريه الناشئة والشباب، التي يشرف عليها ديوان البلاط السلطاني، في تخريج آلاف من الشباب والشابات ليكونوا لبنةً في "بناء جيل من الشباب العُماني المُمكّن، وتزويده بمهارات ومعارف المستقبل والمبادئ والقيم التي تمثل الهوية العُمانية للمساهمة في بناء مستقبل السلطنة في عصر الاقتصاد الجديد". واليوم نحن أمام مسؤولية إنجاح واستدامة هذه الرؤية، وإعداد حوالي مليون من إخوتنا وأخواتنا الطلبة في المدارس والجامعات داخل وخارج السلطنة لزمانٍ غير زماننا. لذا يجدر بنا أن نتساءل؛ ما هي أفضل ممارسات في عُمران مجتمعاتنا للمستقبل؟ وما هي مخاطر عدم تبنينا للابتكار في التعليم؟ وما هي أنسب خارطة طريق للاستثمار في التعليم؟
بناء مهارات المستقبل
في أيام الدراسة الخوالي تعرفنا كطلبة على أحد أبرز الكتب التي نجحت في استشراف المستقبل رغم صدوره قبل زماننا بحوالي 30 عاما وهو كتاب "الاستعداد للقرن الـ21" للكاتب الأمريكي بول كينيدي. وفيه يحلل الكاتب تطورات المجتمعات، وعلاقتها بتوجهات النمو السكاني والمناخ والثورات الاجتماعية والتكنولوجية. كما يقيّم الكتاب تأثير هذه التوجهات على كل من الصين والهند واليابان وأوروبا وأمريكا. ويتنبأ الكتاب أن أبرز تحديات هذا القرن هي الفجوة بين طلبنا المتزايد على الاستهلاك، وبين التنمية غير المتوازنة بين الدول التي لديها منظومات تعليمية عالية الجودة وبقية الدول. ويضرب المثال على الفجوة بين المنظومات التعليمية في الصين واليابان وكوريا والدول الإسكندنافية والاتحاد الأوروبي، مقابل الهند وأمريكا وبقية دول العالم. ويعزو ذلك إلى المنظومات التعليمية عالية الجودة، يؤمن المجتمع فيها بالاستثمار في المهارات وقيمة الكفاءات، ويشجع ثقافة التصنيع الحرفي والمتقدم بصورة تُنتج شركات عملاقة ومستدامة والادخار والاقتصاد الرقمي والتعليم الريادي. ومن أدق ما تنبأ به الكاتب أن الولايات المتحدة الأمريكية ستُعاني من الأزمات الصحية والمالية المتلاحقة، والتحديات الاجتماعية كاستشراء العنصرية وجرائم الكراهية، والمخدرات وتحديات اقتصادية كالخلل في الميزان التجاري مع الدول الأخرى كالصين؛ وأن أمريكا ستنجح في التعايش مع هذه التحديات؛ لأنها نجحت في بناء أقوى المنظومات التعليمية عالية الجودة في العالم القادرة على إنتاج كفاءات تبتكر حلولاً تحول المِحن المذكورة إلى منح وفرص نمو وتقدم.
هل سنشهد "الربيع العربي 2"؟
انتشرت مؤخراً تصريحات مراقبين عن محاذير سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ محدقة جذورها في جمود ثقافة التعلّم، قد تؤدي لحدوث ربيع عربي ثان؛ نظراً لما يرونه من تشابه ظروفٍ حالية مع ظروف انتفاضات العام 2011. وبتحليل الفروقات في ثقافة وتطلعات المجتمع والشباب في يومنا هذا وقبل 10 أعوام، فإني لا أرى ربيعاً في الأفق. وتكاد اليوم التطلعات الفردية والتنافس سمة من سمات المجتمعات العربية، مع تعاطف متواضع مع أي تعبير مشترك عن التطلعات وذلك؛ لأن الانتفاضات هي تعبير عن تطلعات مشتركة لغدٍ أفضل بينما يغلب على المجتمعات اليوم بصورة عامة، والشباب بصورة خاصة التطلعات والاهتمامات والطموحات الفردية؛ وذلك بسبب التكنولوجيا وثقافة التنافس على الأموال والثمرات. كما أنه خلال الـ10 أعوام الماضية نجحت المجتمعات التي شهدت ربيعاً في اختزال التقدم التكنولوجي في تبني تقنيات الترصُد والمراقبة، وتسخيرها لتشويه التطلعات المشتركة لتطوير المنظومات ومنها التعليمية. كما شاركت مجتمعاتنا بيانات مواطنيها المؤمنين بتطلعات التطوير المشتركة مع بقية منظومات المراقبة، والترصد الخليجية والإقليمية والعالمية بصورة تغتال شخصياتهم، وتشجع على هجرة العقول خارجياً وتستبق أي تطلعات نحوالتطوير داخلياً. ومع تعافي مجتمعاتنا من آثار الجائحة ستبقى بعض رواسبها مثل تأثر جودة المنظومات التعليمية بصورة تعمق الفجوة بين ذوي الدخل العالي والمحدود مع تآكل ذوي الدخل المتوسط. وقد يغذي هذا التأثير ثقافةً طبقيةً لدى الجيلين الحالي والمُقبل نظرا، لأن الحصول على تعليم ذي جودة عالية سيقتصر على أبناء وبنات المقتدرين مما يزيد من فرصهم في الأرزاق وسوق العمل، بينا سيظل ذوو الدخل المحدود في حلقة مفرغة بين الفرص المحدودة التعليمية والصحية والوظيفية والمعيشية والهجرة، إلا من رحم ربي.
راعية الحوت The Whale Rider
من أحسن قصص التراث العالمي قصة راعية الحوت؛ عن شعب "الماوري" وبطلهم القومي "بايكيا". هذا البطل الأسطوري الذي قادهم للتعايش مع قائد حيتان المحيط الهادئ إلى وطنٍ جديد وحياة كريمة، يتعايشون فيها بصورة مستدامة مع منظومات خيرات المحيط فيما يسمى اليوم نيوزيلندا. ولكن، وكما هي سنة الحياة، يواجه الزعيم كورو من أحفاد البطل بايكيا أزمةً مركبةً لم يوجهها أسلافه؛ نقص في خيرات المحيط مع عدم بروز أي خليفة قادر على ركوب البحر، وإتمام أهم تقاليد شعب الماوري وهي غوث الناس والغوص في البحر؛ لإيجاد سن الحوت الأول الذي قادهم إلى وطنهم الجديد.
ولمواجهة هذه الأزمة يبذل الزعيم كورور قصارى جهده في تعليم فتيةٍ لإثبات قدراتهم. إلا أنه يُصر بعنادٍ على نظرةٍ ضيقة في اتباع ما وجد عليه آبائه وأجداده؛ فيصر على تعليمهم في الظلام بأساليب جامدة لا تنفع بل وتنّفر الفتية من الإيمان بهويتهم وتراثهم. كما يستبعد حفيدته "باي" المتحمسة وذات القدرات الاستثنائية؛ لأنها في رأيه الشخصي فتاة لا تفلح. ولكنها أصرت أن تتعلم عن شعبها وقصصه والمحيط من كل من قبل تعليمها. وبينما الزعيم والناس يبتهلون لرفع بلاء الجوع عنهم يتفاجئون بجنوح الحيتان على شواطئهم ويكاد يسقط في أيديهم. فما كان من الحفيدة باي إلا أن اعتلت ظهر قائد الحيتان بحماسٍ وعزم، ودعته للعودة للمحيط وتبعه سربه، وقادت شعبها إلى بر الأمان.
ونحن اليوم قبل الغد في أمّس الحاجة إلى استلهام فِكر وقلب راعية الحوت، والتكاتف والتكامل مع جهود قياداتنا التربوية والاستثمار في مبادراتها وفي منظومة شركات ناشئة متخصصة في التعلّم (EdTech) لبناء منظومات تعلّم قيّمةٍ؛ توّفِق بين تراثنا وعالَم التعليم والابتكار المفتوح ومهارات المستقبل، "ولو تحت ظل شجرة".