رتُوش

 

الطليعة الشحرية

 

القياس بالمسطرة

 

تَقاسَمنا طاولةً في مقهى.. صمتٌ مُطبِق، وكلٌّ منِّا يحتسي قهوته، بينما السيدة ذات الملامح الغربية بشعرها الأشقر القصير، وبشرتها المُنمَّشة، تُراقبني بعينيها الزرقاويْن من خلف نظارتها الزجاجية. قطعت الصمت بأنْ اعتذرتْ لي؛ فبدا تصرُّفها غريبًا جدًّا، نظرتُ لها باستفهام، فكَّررت الاعتذار. أردفت بأن جورج بوش الابن مجنون. أدركتُ الموقف (!) كُنَّا نتقاسم الطاولة بعد سقوط بغداد بثلاث سنوات أو أكثر، والعالم يعزف معزوفته الجديدة: "الإرهاب".

انضمَّت إلينا سيدة أجنبية أخرى، واعتذرت مني مرة أخرى، ولكن هذه المرة -برأيها- عن القَمْع والاضطهاد الذي أرزح تحته؛ وهو "حجابي"؛ فقلتُ لها: "عُذرًا، كان ينبغي عليَّ أن ارتدى منديلًا من ديور أو شانيل ولن يُعدَّ وقتها قَمعًا"، وسألتُ نفسي يومها: هل هَيئتي ولوني وملامحي تُقاس بالمسطرة؟!!!

 

ورقة بيضاء

يفتحُ النافذة، ويلقي ورقةً بيضاء ويأتي بعده غيره ينحني وينتشلُها. وإذا سألته: لمَ لا تُلقِ القمامة في مكانها؟ يُجِبكَ: "هذا عمله، وعليه أن يُدرك ذلك ويهتم بالنظافة".

وفي اليوم التالي، يلقِّن ابنه درسًا مُحكمًا بأنَّ "النظافة من الإيمان".. يبتسمُ الابن، ويفتح النافذة، ويلقي ورقةً بيضاء أخرى.

حارس المرمى

اتَّصل يُعاتب وينصَح ويُرشد، لا يتوجَّب عليك قول كذا، أو وضع "حالة واتساب" كذا، أو الكتابة عن كذا وكذا.. إنَّها مهلكة، ومنغصة، وسيُحاسبك الله على كلِّ شيء تفعلينه. حسنًا، اتَّفق معك، وكذلك أنت ستُحاسب، وأعلم يقيناً أنَّني من تراب ولست من نور، ألا تعلم يا حارس المرمى أنَّ الملائكةَ لم تُخلق لتسكن الأرض، فلمَ الاستماتة لحِرَاسة المرمى؟

 

قلم رصاص

أمسِك قلمًا وخُطَّ به، ولا يهُمُّ ما تخُط أو ترسُم، المهم أن تحشر فمَّ الحقائق والباطل بالتُّرهَات. وينكسر رأس قلم الرصاص وأعاود أنا الكرَّة، وأحشُر بطن الورق بحقيبة مزخرفة وحديثٍ مُنمَّق.. جنونٌ رقميٌّ مَحْض. هيَّا أيُّها الورق الأحمق، امتص واستوعب كل ذلك، ولكنَّ رأس قلم الرصاص كُسِر، ولم يعد ينفع. حينها قرَّرت أن استبدله بقلمٍ جاف.

 

غير جلدك

هل تحتاج إلى سَلْخ جلدك واستبداله، أعتقد ذلك حين تَستهلك كلَّ طاقتك، وذاتك تُسحب منك، يجب عليك الوقوف، وإن كُنت على قارعة الطريق.. انزع القديم يتجدَّد الجديد؛ فلا تَمْتَعِض من ذاتك وأخطائك المتكررة. يحقُّ لك أن تكره نفسك أحياناً، وأن تحبَّها أحياناً. تحتاج فقط إلى تغيير جلدك.

 

ليَ البصلُ ولكَ قرعُ العسل

تمَّ الخَصْمُ من حسابك: خمسة، عشرة.. سبعة عشر، لم تصل بسلام أيُّها الرَّاتب المنتظر، رحلتُك شاقَّة بين الخُصُومات وأمنياتي السَّخيفة. أعدتُ الحِسبَة: كم أحتاج؟ وكم يحتاجون هُم؟ أوقفتني يدٌ صديقة: "لا عليك، اعتبريها صدقةً عنك". سُحقًا، هل يتوجَّب عليَّ أن أدفَع ضريبة فشل الآخرين عَمدًا، أم قُدِّر لِي ماء البصل ولهم قرع العسل؟!!!!

حظر تجوال

انطلقتْ السيَّارة، بها ثلاثة إخوة؛ يتَّجِه الأول إلى المستشفى يرتدي زي الحماية والكمامة وكأنَّه فضائيٌّ يعمل بالخطأ على كوكب الأرض، يُفكِّر ماذا يفعل بعد انتهاء الجائحة؟ "هل آخذ إجازة بعد عامين ونصف؟".. توقَّف السائق، ونزل المُمرِّض.

انطلقتْ السيارة مرَّة أخرى، وقفتْ عند مُفترق طرق، نزل المتسابِق يستعدُّ للرَّكض ويلوِّح للسائق، وقال: نلتقي الساعة ٩ مساءً، ونحن نركُض، ودوريتكم وراءنا: مَن يُمسِك مَن؟

الساعة العاشرة صباحًا، غرَّد أحدهم: "حالات كورونا في تزايد.. إيش صار؟!!!".

 

* رتُوش هي صُوَر من هنا وهناك.. مُفارقات في حياتنا المُتخَمة بالتناقض.