الخليج وثقافة الديمقراطية (19)

 

مستفيدو مغانم الريع معوقا

 

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري

كاتب قطري

لا يُمكن تطبيق الديمقراطية -ثقافةً ونظامًا- في مجتمعاتنا الخليجية لسبب بديهي، هو أننا مجتمعات ريعية نحيا بالريع، ونعتاش عليه، ونتنازع في سبيله، ونخاصم بَعضُنَا بعضاً من أجله. وهو مصدر الدخل الوحيد للخليج وسيظل كذلك إلى خمسينيات هذا القرن أو اكثر، ورغم كثرة دعاوى تنويع مصادر الدخل ووعود المسؤولين الخليجيين لا يبدو لي في الأفق القريب ما ينبئ بتحقيق أي تنويع في مصادر الدخل أو الإنتاج، بل سيظل الخليج عالة على الريع وحده.

كيف يُمكن تحقيق الديمقراطية في مجتمعات شرعنت نظام العطايا والمكرمات والهبات والمنح والامتيازات لفئة من المجتمع، استأثرت بالقرب من السلطات في الوقت الذي يحرم فيه سائر الفئات المجتمعية الأخرى التي لا تحظى بهذ القرب الامتيازي؟!

إنَّ الثراءَ الريعيَّ الطارئ على أصحاب هذه الفئة المحظوظة بالقرب من أهل السلطة، ممن هم حديثي عهد بالثروة، إنما تحقق لهم من غير أي بذل جهد أو عمل أو تنمية أو إنتاج أو تحمُّل مخاطرة أو كفاءة. وهذا في حد ذاته أكبر معوقات تطبيق الديمقراطية.

ظهر مؤخراً بمقطع فيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي أحد هذه الشخصيات المقربة المحظوظة، متباهياً بما حصل عليه وأُعطي من مكرمات ومنح وهبات من أراضٍ وأبراج وشاليهات ومزارع وشقق وامتيازات أخرى، مُسبِّحاً بحمد وشكر المُنعِم عليه. قد يكون هذا العمل تم بحُسن نية، ظناً أنه أحسن صنعاً، لكنه لم يدرك أن هذا الفيديو استفزَّ شرائح مجتمعية عريضة محرومة، وترك في النفوس آثاراً سلبية مريرة، فهناك من لا يستطيع الحصول حتى على قطعة أرض لسكن يأويه وعائلته!

أنا أتحدث عن الوظيفة أو السلوك الاجتماعي الاستفزازي لفئة تحصل على نصيب من الناتج الريعي دون أن يكون لها أي إسهام أو مسؤولية خاصة في تحقيق هذا الناتج، أناشد هؤلاء مراعاة مشاعر غيرهم ممن لم يحظوا بما حظوا به ويجبروا بخواطرهم، فجبر الخواطر عبادة، عليهم اتقاء دعوة المحرومين والمظلومين والمهمشين، وعليهم إدراك أنَّ النظرة المجتمعية لهم ولكافة هذه الامتيازات الريعية تظل تشوبها أشكال من الريبة؛ كونهم جلبوا ثرواتهم الطارئة بعيداً عن قيم الإنتاج وبذل الجهد وتحمل المخاطر، نوعاً من الدخل غير المبرر وغير المسوغ، عليهم أن يستوعبوا أن هذه الوضعية الاستئثارية غير السوية تتناقض مع جميع مبادئ العدالة وتكافؤ الفرص والمساواة والشرائع والدساتير الخليجية نفسها، بل تتنافى أيضًا مع كافة القيم الدينية والحقوقية والأخلاقية والإنسانية.

وبطبيعة الحال، فإنَّ المستفيدين من هذا النظام الريعي ومكرماته وعطاياه ومنحه ومغانمه لن يكون من مصلحتهم وجود نظام ديمقراطي فاعل وبرلمان قوي يراقب ويسائل ويحاسب الدخول غير المبررة، وسيكونون عامل تعويق.

هذا الاستئثار لشريحة مجتمعية بمغانم الريع دون بقية الشرائح المجتمعية العريضة، جعل منها فئة مختارة مميزة (VIP) وخلق  فجوة اجتماعية كبيرة تزداد اتساعاً بينها وبين الغالبية العظمى من الشرائح المجتمعية، وخلق ردة فعل غير محمودة العواقب، وزرع كراهيات ومرارات في نفسيات أبناء المجتمع الواحد، كما أضعف الولاء والانتماء، وأفسد مفهوم المواطنة.

في مثل هذه البيئات الاجتماعية الطاردة لفكر وقيم الديمقراطية، لا يمكن للديمقراطية أن تتوطن، ولا لقيمها أن تترسخ، مهما طنطن الإعلام الرسمي وتغنى بالديمقراطية ورفع شعاراتها.

أخيرًا.. إنَّ السياسات الهادفة لترسيخ الفوارق الاجتماعية بين أبناء المجتمع الواحد عبر نظام العطايا والهبات للبعض، وحرمان الغالبية العظمى من المواطنين، إنما تزرع الفرقة والانقسام بين المواطنين، وتغذي مشاعر الكراهية في نفوسهم، وتضعف روح الولاء والانتماء فيهم، وهي فضلاً تعد نوعاً من الفساد المجتمعي المقنن، وكل ذلك مؤذن بزوال النعم وحلول العقوبة الإلهية، كما في قوله تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرًا". أدعو المولى عز وجل المنعم علينا بهذ الريع من غير جهد أن يجعله نعمة محمودة ولا يصيره نقمة مذمومة.