"ماااااااء"

غسان الشهابي

تتعرَّض مصر اليوم إلى ما سبق أن تعرَّضت له كلٌّ من سوريا العراق قبل حوالي 3 عقود، عندما بنت تُركيا سد أتاتورك؛ فانخفض منسوب شريان الحياة فيهما، فصار نهر دجلة يبكي من سبق وإن رآها يجري ويهدر، وهذا ما يُتوّقع أن يحدث مع النيل، مع اكتمال بنيان سد النهضة الإثيوبي، وتقنين ما يصل إلى السودان ومصر منه.

هناك حماس شعبي، وربما شعبوي في مصر للقيام بضربة خاطفة تنهي مسألة السد الإثيوبي من أساسه ولا تقوم له قائمة وكأن الحرب نزهة، أو أن مصر آمنة من أن يأتيها ردٌّ من "مكان ما" يستهدف سدّها العالي فتتضاعف الكارثة حينها، وهناك تعهد من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بأنه لن يسمح لكائن من كان أن ينقص حصّة مصر من ماء النيل قطرة واحدة، وهناك دعوات لاجتماع عاجل لدول حوض النيل، وهناك وهناك... ولكن هناك جهة واحدة تتفرج بسعادة على هذا المشهد الذي يمتص من طاقة دولة عربية كبيرة جدا كمصر، ويبثّ الرعب بين بنيها بأن نهر النيل سوف يغدو جدولاً، وماؤه لن يكفي الشرب والسقي وإنتاج الكهرباء من السد العالي الذي دخلت مصراً أساساً "معركة" مع القوى الاستعمارية لبنائه، فهل ستتوقف توربينات السد العالي عن الدوران، والتساؤل يكبر: هل سنعطش؟!

بطبيعة الحال هذه الجهة الشامتة المتشفية هي "إسرائيل"، الكيان البشع الذي يتسلل بين الثنايا، فإذا قيل: "إن الطبيعة تكره الفراغ"، فإن الكيان المحتل يكره الطبيعة، فلا ينتظر فراغاً بل يصنعه، ويغري به، ويشجعه، ليتربع هو مكانه ويبدأ في إملاء شروطه.

الفترة الناصرية كانت واضحة المعالم في السعي من أجل محاصرة وعزل هذا الكيان، وتصعيب حياته عليه. فذهبت تقوّي الدول العربية وتشجعها على الاستقلال حتى تضرب جداراً من الحصار ضد العدو، وفطنت مصر في الوقت نفسه إلى أن هذا العدو من الممكن جدًّا أن يتغلغل في منطقة فقيرة كالقارة الإفريقية ليجد له منفذا، مغرياً إياها بمن ورائه من دول وقوى، وأن الاتفاق مع الكيان المحتل يمكن أن يجلب رضا "العم سام"، وبالتالي يجلب الأمن والاستقرار والتنمية، ولكن الرئيس المصري جمال عبدالناصر كان قد عمل بكل جهد على أن يجعل إفريقيا موحّدة إلى حدّ كبير، وأن يقارب ما بين فعل الاستعمار والاحتلال الصهيوني.

وما إنْ انهار الحلم العربي الكبير مع 1967، أو تصدَّع على الأقل، وتهاوى جزء مهم من أركانه؛ حتى انكفأت الدول العربية بعدما أنهكت، تحاول لملمة شتات أمرها، وصار همُّها الأكبر حماية الأنظمة من الانهيار، وفوز الطبقة الحاكمة بأكبر قدر من المزايا والزوايا في هذه الدول؛ لأنهم يعلمون أن الجماهير والطبقات المثقفة ما عادت ترغب في وجودهم.

هنا.. أرخت الدول العربية -خصوصاً في الشمال الإفريقي، وأساساً مصر- يدها عن الإمساك بزمام الأمور، وكان للعدو ما أراد، لكنه اعتاد ألا يتسرع ليقطف الثمار فجأة، فأخذ يروي الأحلام الإثيوبية وها هي ذي الثمار تكبر وتينع، وها هو ذا العدو يكسب مساحة جديدة، ويغلق أكبر مسقى عرفه التاريخ وأشهره، عن واحدة من أكثر دول العالم عراقة وأثراً، في رسالة صريحة واضحة: عن أي سلام تتحدثون؟!