رحلتي مع مهنة المتاعب (2-2)

 

طالب المقبالي

muqbali@gmail.com

كنا في المقال الماضي قد تطرقنا إلى مغادرة وكالة الأنباء العمانية، واستعرضنا رحلتي مع مهنة المتاعب، مروراً بتنوع هذه الرحلة مع مختلف وسائل الإعلام: مرئيها ومقروئها ومسموعها، والمعروف أن مهنة الصحافة والإعلام لا تخلو من المصاعب والعقبات.

ومن الصعاب والعقبات التي واجهتني في هذا العمل أنه عندما بدأت العمل في هذا المجال، كانت لا توجد أي وسيلة اتصال من الوسائل الحالية سوى الهاتف الثابت.

فقد كُنت أدوِّن مُفكراتي اليومية بالأنشطة والفعاليات المقرر إقامتها في تواريخ معينة، فأذهب لتغطيتها ميدانياً، ثم أعود إلى المكتب إن كان وقت عمل فأحرِّر الخبر، ثم أستأذن من العمل وأذهب للمنزل لأتصل بالوكالة لتسليم الخبر؛ حيث الوسيلة الوحيدة، وحيث هاتف العمل ليس ملكاً لي ولا أستحل استخدامه لأغراض خاصة، وإن كان هذا عملا رسميا وخدمة للبلاد، وعملي الصحفي تم بموافقة مكتوبة من جهة عملي الرسمية.

فعند وصولي للمنزل، أتصل بقسم التحرير وأخبرهم بأن لدي خبرًا، فالبعض من الزملاء في التحرير يطلبون مني غلق الهاتف ليتصلوا بي لاحقا كي يوفروا عليَّ تكاليف الاتصال.

وفي الغالب أستمر في تهجئة أو إملاء الخبر مباشرة كلمة كلمة، وذلك لتوفير الوقت وخشية التأخير عليَّ في الاتصال، أو فقدان الخط، لأننا أحياناً ننتظر 10 دقائق وأكثر لنجد خطا شاغرا للاتصال، فهناك كان حسب علمي 100 خط فقط مخصَّصة لولاية الرستاق لجميع المشتركين، ومن النادر أن نجد الخط في حينه، وهذه في حد ذاتها معاناة أخرى، فالصدمة عندما نجد خطاً والهاتف الذي نتصل به مشغول، فإنه يتطلب علينا الانتظار دقائق، فمن الطبيعي أن ننتظر ساعة أو ساعة ونصف من بدء المحاولة إلى انتهاء إرسال الخبر.

وبعد فترة وجيزة، ظهر الفاكس وسهَّل عليّ كثيراً، وإن كان الحال هو الحال في صعوبة إيجاد الخطوط، وكثيراً ما يستغل خط الفاكس الاتصالات الهاتفية، ومع ذلك كان يعد آنذاك نقلة نوعية؛ حيث تغيرت الحال إلى الأفضل، لكن تبقى الصعوبة في عملية إيجاد الفاكس، فأضطرُ للإرسال من أحد المحلات التجارية بمبلغ من المال. حينها اضطررتُ لشراء فاكس خاص بي مما سهَّل عليَّ الكثير، لكن يبقى لزاماً أن أتصل كي أطمئن على وصول الفاكس ومدى وضوحه.

وفي يناير 1997م، أصبح لديَّ بريد إلكتروني ما زلت أحتفظ به حتى اليوم، ومنذ هذا اليوم أصبحت الأمور أسهل بكثير.

وهناك قصص أخرى وتفاصيل أكثر واجهتها في الميدان عند عمل التغطيات، لكنني سأضمنها كتابي في هذا المجال بإذن الله.

وفي شهر مايو 1995م، أي بعد عشر سنوات من التحاقي بالوكالة، تمَّ اختياري كمراسل لإذاعة سلطنة عُمان. فعند إعداد رسالة صوتية أتصل بالإذاعة، وبدورهم يتصلون بي عند جهوزيتهم للتسجيل وأحياناً أنتظر وقتا طويلا محبوسا عن الخروج من المنزل؛ لأنه لا يوجد سوى الهاتف الثابت فتتعطل كل مصالحي.

والمُضحك أنَّني أسجِّل جميع رسائلي الإذاعية للذكرى؛ فأصعد إلى سطح المنزل كي ألتقط الإرسال الإذاعي بصورة مقبولة؛ كون الإرسال ضعيفا في ولاية الرستاق، فأصبر على البرد القارس في الشتاء أو لهيب الحر في الصيف، لكنني مع ذلك أجد المتعة حين أستمع إلى رسالتي الصوتية.

وتمَّ تتويج عملي الإذاعي بالقرار الوزاري رقم 35/1986 بتاريخ 2/8/1986 حين صدر قرار بتصنيف العاملين والمتعاملين مع الإذاعة؛ حيث كان تصنيفي ضمن مجموعة الفئة "ب" التي ضمت عمالقة الإعلام العماني، وأذكر منهم: سعادة علي بن خلفان الجابري وكيل وزارة الإعلام حالياً، والإعلامي المتألق خالد الزدجالي، والإعلامي عبدالله السنيدي...وغيرهم.

وبعد عام وأربعة أشهر، وتحديداً بتاريخ 21 سبتمبر 1996 صدر القرار الوزاري رقم 179/96 بتكليفي بمراسلة تليفزيون سلطنة عمان بولاية الرستاق، فعندما تكون لدينا مناسبة أتصل لطلب فريق التصوير، وكانت الإجراءات آنذاك صعبة، لكنني في النهاية غطيت معظم الأحداث.

ومن الصعوبات أنني أحياناً أستلم الشريط من المصور، وأذهب به بنفسي إلى مسقط لأحضر عملية المونتاج (تحرير الفيديو)؛ خشية حدوث أخطاء في المسميات، فبعض الأخطاء لا تغتفر من المجتمع ومن المسؤولين.

أما فيما يتعلق بمراسلة الصحف فهناك حكاية أخرى؛ حيث كنت أرسل الأخبار بدون صور لعدم توافر وسيلة إرسال الصور، أما إذا كان هناك حدث كبير أو تقرير فإنني أضطر للذهاب إلى مبنى جريدة الشبيبة بنفسي، حاملا تقريري مع الصور التي قُمت مسبقاً بتحميضها في استوديو التصوير؛ حيث لم تكن ظهرت الصور الرقمية آنذاك، فاليوم الذي يُنشر لنا فيه تقرير مصور هو بمثابة يوم عيد، فأضطر لشراء أعداد من الجريدة لتوزيعها على أصحاب الشأن.

لقد عانيتُ معاناة أضافت إلى حياتي الكثير من المتعة، لذلك آمنت بأن الصحافة مهنة المتاعب بالفعل. لكن الصحفي في يومنا هذا لا يجد أي مشقة في الحصول على الخبر وكتابته وإرساله مع الصور، من خلال البريد الإلكتروني، وحتى عبر "واتساب" الذي أصبح وسيلة من وسائل تلقي الأخبار، وغالبا ما تصلنا الأخبار جاهزة من الجهات المعنية، ولا تحتاج سوى القليل من إعادة الصياغة.

فبفضل التقنية أصبحنا نحرر الخبر في الهاتف، ونصور بالهاتف، ونرسل الخبر عبر الهاتف من موقع الحدث، كما أننا أصبحنا نتصفح صحفنا من خلال الهاتف، هذا الجهاز العجيب!

الصحفي في يومنا هذا قد لا يشعر بما أحسسنا به وما عانيناه من صعاب ومشقة هي في حد ذاتها متعة، فأصبح مصطلح أو مفهوم الصحافة مهنة المصاعب لا ينطبق على حاضرنا، إلا للذين يقومون بتغطية أخبار الحروب والكوارث؛ كون الصحفي قد يتعرض للأذى، أما الوسائل فهي متاحة ولا يحتاج الخبر لبذل أي جهد.

وغالب الصحفيين اليوم ينظرون إلى هواتفهم للبحث عن خبر جاهز يُرسل إليهم من جهة ما وقد حرره شخص آخر؛ فيأتي هو ليمسح اسم الكاتب الحقيقي الذي تعب على الخبر ويضع اسمه بدلاً منه! وفي اليوم التالي ينشره في مواقع التواصل الاجتماعي ليتباهى باسمه المدوَّن على الخبر في الجريدة.

فهل يجوز أن نطلق على هذا الشخص صفة صحفي؟!