المسؤولية الاجتماعية.. بين التنظير والواقع

 

 

◄ المساحة لا تزال متاحة للعديد من عمليات الرقي والتطوير للنهوض بالمسؤولية الاجتماعية

 

مسلم سعيد مسلم مسن

المسؤولية الاجتماعية مفهوم ارتبط كثيرا -من الناحية الاقتصادية- بالشركات ذات الملكية العامة والخاصة والمختلطة، إلا أنَّ المنظِّرين لهذا المفهوم توسعوا في أدبياته أكثر من مسألة تحقيق نتائجه الملموسة على أرض الواقع؛ بل إن العديد منهم ذهب إلى ضرورة رسم السياسات ووضع المواثيق والقوانين المنظمة لهذا المفهوم؛ تحريا منهم لاستدامة ثماره التي من المفترض أن تعود على المجتمع.

وبين من يُؤيد تأصيل طواعية برامج المسؤولية الاجتماعية، ومرجِّح لإلزامية برامج المسؤولية الاجتماعية، كانت المناكفات والسجالات والحوارات العديدة التي لا تصل إلى مرافئ ثابتة ترسخ غايات هذا المفهوم، إلا أن الجميل في الموضوع أن التجارب تنوعت والقوالب الخاصة بالمسؤولية الاجتماعية تعددت، رغم أن النتائج الكلية تواضعت؛ فهي لا تضاهي طموح المجتمع تجاه هذا المفهوم حتى الآن.

فهل غلب التنظير لسياسات وتشريعات وأطر ومواثيق المسؤولية الاجتماعية أكثر من أي شيء آخر يتعلق بالنتائج الممكنة؟ أم أن هناك فعلا ثمارا ونتائج وفيرة للمسؤولية الاجتماعية لم يحسن توزيعها وإدارتها وتفعيلها لتحقيق الاستفادة القصوى للمجتمع؟

لن نستمر كثيرا في هذا الجدل وتساؤلاته الفرعية؛ لأننا فعلا لا نملك الإجابة الشافية المستندة إلى بيانات كافية لتقييم هذا المفهوم في السلطنة على الأقل، ما يمكن الجزم به أن المساحة لا تزال متاحة للعديد من عمليات الرقي والتطوير للنهوض بالمسؤولية الاجتماعية إلى آفاق أوسع وقيمة أعلى تنعكس آثارها الإيجابية على متطلبات المجتمع؛ إما من خلال خدمات مستدامة أو تنمية بشرية وإنسانية في أي من جوانب حياة الفرد. ومن هذا المنطلق، نعتقدُ أنَّ هناك أطرًا عامة يُمكن من خلالها التعامل مع المسؤولية الاجتماعية خلال المرحلة المقبلة:

- من المناسب أن تكون هناك مساحة واسعة للمؤسسات الربحية وغير الربحية لتحديد برامجها الخاصة بالمسؤولية الاجتماعية، وفق آليات عملها الداخلية، مع وضع إطار حكومي عام فقط لا يحمل صفة الإلزامية، وإنما التوافق والمشاركة. الإطار الحكومي العام أو الميثاق يُمكن أن تُشارك في وضعه المجتمعات المجاورة للمشروعات والمجالس البلدية في كلِّ محافظة، بعيدا عن المركزية؛ لأن القوالب الجاهزة في هذا المجال لم تُثبت فاعليتها.

- رَبْط برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات بحوافز حكومية مقابلة تقوم على مبدأ "كلما توسعت الشركات في برامج المسؤولية الاجتماعية بكفاءة تحصل على ميزات حكومية أكبر وتقدير مجتمعي أوسع".. هذه السياسة لا بُد أن تكون حاضرة خلال المرحلة المقبلة ومعززة مركزيا وإقليميا من خلال المحافظات.

- هناك مُبادرات قيِّمة تعكسُ حسن توجه برامج المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص، تمتاز بأنها شاملة من حيث المجال وقيمة من حيث المخصصات المالية، إلاَّ أنها تصطدم حقيقة بجدار البيروقراطية الحكومية، وسوء إدارة الموارد، وضعف وبطء التنفيذ. هنا، لا يُمكن أن نلقي باللوم على الشركات، وإنما لا بُد من برامج بناء قدرات ترفع من كفاءة الإدارات المحلية والهيئات المختصة وتوجد آليات تخصيص وتناقص ومتابعة تسهم في تسريع تنفيذ مساهمات البرامج المسؤولية الاجتماعية للشركات.

- الكثير من الأصوات تنادي بهيئات متخصصة للمسؤولية الاجتماعية وصندوق موحَّد لمساهمات تلك البرامج، وذلك كلما احتدم النقاش وتبعثرت الجهود. إنَّ التنظيم جيد كما أنني على يقين بأن هذه الأصوات تنشد الرقي بهذا المفهوم، لكنَّني ما زلت مؤمنا -وقد أكون جانبتُ الصواب- بأن المركزية الصرفة لا تخدم المسؤولية الاجتماعية؛ سواء من خلال هيئة أو صندوق جامع للمساهمات؛ بل إن بعض الشركات قيدت أكثر مساهماتها عندما صارت عضوا في لجنة أو هيئة أو صندوق، بينما كانت مساهماتها عبر مجالس إداراتها ذات مردود أكبر للمجتمع. وهنا، نرى البديل عبر تنسيق برامج المسؤولية بشكل أُفقي أجدى وأنفع، خصوصا في ظل هيكلة الجهاز الحكومي التي من المفترض أن تخدم مثل هذه البرامج.

- بعضُ الاتفاقيات الاستثمارية لقطاعات السياحة والتعدين والطاقة بأنواعها يمكن أن تتضمن نماذج استرشادية لبرامج المسؤولية الاجتماعية المتوقعة من المستثمرين للاهتداء بها؛ وذلك بناء على دراسات مسبقة تعتمد على طبيعة متطلبات المجتمعات المجاورة لتلك المشروعات. وهذا قد يوفر الأرضية المناسبة لنجاح تلك البرامج منذ بداية المشاريع متى ما استدام التشغيل وتوفرت معدلات الربحية.

- اعتماد نمُوذج تقييم لمخرجات هذه البرامج وحصر عناصرها يقع على كاهل الجهاز الحكومي والمستفيدين. وهنا، يُمكن أن يلعب مركز عمان للحوكمة والاستدامة دورا رئيسيا في وضع هذا النموذج للتيقن من استدامة برامج المسؤولية الاجتماعية.

- حوكمة برامج المسؤولية الاجتماعية أصبحت ضرورة ملحَّة لوقف الهدر وسوء تخصيص الموارد والتقاء المصالح بين مُقرِّري هذه البرامج والمستفيدين منها. والتعويل على تطبيق مواثيق الحوكمة على مستوى الشركات المساهمة ومبادئ الحوكمة للشركات الحكومية الصادر مؤخرا وميثاق الحوكمة لشركات المجتمع المحلي (تمَّ تدشينه من قبل شركة تنمية نفط عمان ومركز عمان للحوكمة والاستدامة)، ومشروع حوكمة الشركات المقفلة (الذي تم توقيع مذكرته مؤخرا بين وزارة التجارة ومركز عمان للحوكمة والاستدامة)، في أن تشمل هذا الجانب؛ لأن تقريرَ هذه البرامج يتم عبر مجالس إدارات هذه الشركات، ولابد أن تُراعي هذه المجالس كلَّ الاعتبارات المتعلقة بحوكمة برامج المسؤولية الاجتماعية.

لن نُوفِّي هذا الموضوع حقه وأهميته؛ فالمسؤولية الاجتماعية من حيث سياساتها ومواثيقها وتوجهاتها وبرامجها، ومدى الزاميتها ترسُم مبادئ طواعيتها وما حققته وما لم تحققه، وتباين التجارب من قُطر إلى آخر، كلُّ هذه الجوانب تظل مثارَ تنظير لا ينتهي، وواقعًا لا ينسجم مع ذلك التنظير، لكنَّ العبرة دائما بالنتائج.