عقارب القيمة المضافة ومساكين البحر

خالد بن الصافي الحريبي

بينما تهِلُّ علينا هذه الأيام المباركة بأغلى الأعياد للبشرية؛ كالاستعداد لشهر رمضان المُبارك وعيد الأم وعيد النيروز أو الربيع، ولكأنَّني ألحظ ربيعنا ينقلب شيئا فشيئًا إلى صيفٍ حار بسخونته وجائحته وتحدياته، بالذات للمؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة، والتي من أبرز تحدياتها لهذا الربيع الصيفي النقص في الأموال والثمرات، مع تواصل تباطؤ عجلة دوران الاقتصاد وتناقص القوة الشرائية.

لذا؛ خصصت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن خطة تحفيز اقتصادية حقيقية في إطار ما يعرف بـ"خطة الإنقاذ"؛ تهدف لتحفيز القيمة المحلية المضافة، وذلك بقيمة 55 مليار دولار (21.48 مليار ريال عُماني) خُصصت لتحفيز إسهام المؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة في القيمة المحلية المضافة عبر برامج: حماية الأجور، وتحفيز مؤسسات الأمن الغذائي والمائي، وتعويضات أضرار الجائحة، والتمويل المُيّسر في كل الولايات، وتحفيز المؤسسات المعرّضة للإغلاق.

فما هي القيمة المحلية المضافة؟ وما أبرز تحدياتها؟ وكيف لمبدأ "فكر في الصغيرة أولاً" أن يعززها؟

 

الاستدامة والقيمة المحلية المُضافة

منذ العام 2010، حظيت مأسسة الاستدامة والمسؤولية الاجتماعية للشركات والقيمة المحلية المضافة باهتمام بالغ ومتزايد من لدن السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- وكان -رحمه الله- يوعز للقادة العالميين بالاهتمام بهذا الجانب؛ ومنهم على سبيل المثال: رئيس مجلس إدارة شركة شل العالمية الأسبق السير مارك مودي ستيوارت -كما حدثني- ومنذ ذلك الحين، يعد أبسط تعريف للقيمة المحلية المضافة أو تطوير المحتوى المحلي الاقتصادي أنه "إجمالي ما يُنفق داخل البلد"(In Country Value-ICV/ Local Content Development) .

وتشمل استثمار الشركات، خاصةً الكبرى العالمية، في الأصول المحلية وكفاءاتنا وتدريبها والبضائع والخدمات والبحث والتطوير والتعليم والابتكار محليًّا. وتبلغ قيمتها حسب حجم اقتصاد الدولة بين ما لا يقل عن 2.6 مليار دولار (مليار ريال عماني) في الاقتصادات الريعية التي تعتمد على موارد غير متجددة، إلى ما لا يقل عن 25.6 مليار دولار (10 مليارات ريال عُماني) سنوياً في الاقتصادات الإنتاجية التي تؤمن بفِكر وإنتاجية الإنسان. وتشمل كافة القطاعات المهمة؛ كالصحة والأمن الغذائي والمائي والتعليم والطاقة والمالية وتقنية المعلومات والاتصالات والإسكان... وغيرها. إلا أنه حول العالم في الاقتصادات التي تعتمد على شركات تطوير النفط المحلية لا تتوافر عنها أية بيانات مُدققة بصورة تتوافق مع أبسط مبادئ الحوكمة وتكافؤ الفرص والشفافية، عن أي إسهام مُستدام لها في القيمة المحلية المضافة وتطوير المؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة. ونظراً لأهمية استدامة موارد الرزق فإن المؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة هي العمود الفِقري للقيمة المحلية المضافة في الاقتصادات القائمة على فِكر إنتاجي؛ لأنها الأكثر مرونةً ومبادرةً وابتكاراً من بقية المؤسسات التي غايتها بقاء الحال على ما هو عليه للسيطرة على حصتها السوقية.

ولأنَّ دوام الحال من المُحال، وأنَّ الثابت الوحيد في عالمنا هو التغير؛ فإن سبيل الاستدامة يتمثل في إتاحة وتيسير كافة أنواع فُرص القيمة المحلية المضافة للمؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة.

 

عقارب الاقتصاد ومساكين البحر

عندما يغيبُ الربيع تلعب العقارب، وعندما يغيب فِكر الحَوكمة والابتكار عن مجالس إدارات المؤسسات التي وثق بها المجتمع لتعزيز القيمة المحلية المُضافة تلدغ المؤسسات الكبيرة المؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة في موارد رزقها. وحتى مجتمعاتنا تمر بجائحة لا يكاد يمر شهر دون أن نشهد مؤسسة كبيرة، حكومية وخاصة، تُزاحم المؤسسات الناشئة في أرزاقها ومشاريعها وتُكبد الدولة ديوناً وقروضاً؛ هي همٌّ بالليل وذل بالنهار، دون أي اعتبار لرؤيةٍ وطنيةٍ لمجتمعٍ مبدعٍ أو كفاءات تنافسية.

وأهم ثلاثة مظاهر لهذا هو: تكوين بعض المؤسسات الكبيرة المترهلة لشبكةٍ عقارب عميقةٍ ومتقاربةٍ مرتبطةٍ بداخل نفس المؤسسات وخارجها، مهمتها الحِفاظ على مصالحها المالية الضيقة التي تتعارض مع مبادئ الحوكمة والابتكار على حِساب أدوار مؤسساتهم الوطنية، ومنافسة المؤسسات الكبيرة للمؤسسات الصغيرة بصورة غير شريفة للاستحواذ غصباً على كُل المشاريع والمنصات العامة دون تخصيص أي نسبةٍ حقيقية منها للمؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة، وإنفاق موارد المؤسسات الكبيرة في دعايات حول دورها الوطني لتبقى حَسَنة المظهر سيِئة المَخبر. ومثل المنافسة غير الشريفة للمؤسسات الكبيرة للناشئة والصغيرة في الاقتصادات التي تغيب عنها الحوكمة والابتكار؛ كمثل الملك الغاصب والمساكين الذين يعملون في البحر؛ كما قال سبحانه وتعالى في سورة الكهف في قصة سيدنا موسى عليه السلام والعالِم الصالح: "أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا" صدق الله العظيم.

 

مبدأ "فكر في الصغيرة أولاً"

في القرن الرابع عشر، ومع انحسار الدور الحضاري لدولة الأندلس وتداعيات الحروب الصليبية، حدث فراغ في النظم الأخلاقية والتشريعية والضبط والربط، وسيطرت على أوروبا شبكات إقطاعية نفعية استغلت المساكين الذين يعملون في البحر والبر، وسامتهم سوء العذاب وساومتهم على أرضهم ومالهم وأعراضهم وأرزاقهم. وبعد أن منّ الله عليهم بجلاء جوائح المرض والجهل والفقر، نهضت أوروبا ومأسست الحوكمة والابتكار مما أسهم في انتقالها رويداً رويداً إلى من اقتصادات إقطاعيةٍ إلى إنتاجيه. وما زالت حول العالم اقتصادات لا تؤمن بالرؤية التي تدعو لتعزيز الحوكمة والابتكار، وتستسهل إسناد المشاريع والمنصات ذات النفع العام لمؤسسات حكومية بتأثير من شبكات النفع المُتبادل المتقاربة وإمكانياتها الدعائية، وتستهين بالضرر الذي يُلحقه هذا بأرزاق الناس بصورة عامة والشركات الناشئة والصغيرة والمتوسطة بصورة خاصة في هذه الظروف العالمية الاستثنائية.

لذا؛ فإنَّني أرى أنَّ خارطة الطريق الأجدى في الانتقال من مرحلة القول والدعايات إلى مرحلة العمل والتنفيذ وقياس أثر القيمة المحلية المضافة تتمثل في تبنّي المبدأ الاقتصادي "فكر في الصغيرة أولاًThink Small First "؛ إذ إن من شأن اعتماد هذا المبدأ قبل إسناد أية أعمال أو مشاريع أو منصات، نفع عام أن يُسهم في تحقيق رؤية "عُمان 2040" في ظل العهد المتجدد لمولانا السلطان هيثم بن طارق المعظم -أيَّده الله- بما في ذلك الإسهام في الحد من ثقافة التجاوزات وشبكات مصالح النفع المُتبادل المُتغلغلة في مؤسسات تطوير الاقتصاد المحلي الكُبرى، كما أنَّ اعتماد مبدأ "فكر في الصغيرة أولاً" في استدامة الأثر الاجتماعي والاقتصادي وغرس ثقافة التعاون والانتاجية وتعزيز الاقتصاد المحلي المبني على المعرفة والبيانات.