تحقيق وتفعيل القيم المثلى

خالد بن أحمد الأغبري

كما نعلم جميعا أنَّ جنود الله في سمائه وأرضه كثيرة ومتنوعة ومجهَّزة بكل متطلباتها من عتاد وعدة وقوة متكاملة.. تعمل بأوامره سبحانه وتعالى وتنفذ توجيهاته وتعليماته بكل دقة "وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا".

الأمر الأول: عندما أراد الله خلق سيدنا آدم عليه السلام كان هناك تسلسل ومراحل في الكيفية التي تكوَّن من خلالها سيدنا آدم بتلك الصورة الجمالية المتكاملة في شقيها المادي والمعنوي، وما يكمن ما بينهما من تشكيلة متناسقة وحقائق علمية دقيقة، تُظهر ذلك الإعجاز الرباني الذي تكون من خلاله هذا المخلوق البشري لكي يكون خليفة لله حسبما وصفه الله في كتابه العزيز: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ". وقد بدأت حياة البشر تتطور وتنمو وتاخذ وضعها الطبيعي من أجل عمارة الارض وعبادة الخالق حيث يقول الله تعالى في ذلك "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" [الذاريات: 56- 58].

والعبادة كما عرفها أحد العلماء: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة، كالخوف، والخشية، والتوكل، والصلاة، والزكاة، فالصلاة عبادة، والصدقة عبادة، والحج عبادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة، وكل ما يقرب إلى الله من قول، أو فعل فإنه عبادة"، ومن هنا يبدو لي أن المهمة الأساسية للانسان في هذه الحياة هي العبادة المطلقة المتمثلة في كافة جوانبها وشروطها وأفعالها، ومن ثمَّ عمارة الأرض التي سخرها الله لنا بما فيها من نعم لا تحصى ولا تعد، ومن ضمن ذلك مسؤولية الإنسان المتمثلة في عمارة الكون وإنمائه واستغلال كنوزه وثرواته، والناس فيه سواسية، والسعادة التي يتطلع إليها الانسان لا تكتمل إلا بتوافر شروط العبادة وتكاملها قولا وعملا.

 وما يتضح جليا في هذا الشأن أنَّ هنا رابطا قويا ومتين ما بين واجبات العبادة وما بين عمارة الأرض؛ حيث لا يمكن الفصل بينهما بدافع التدين وترك الجوانب المادية التي هي جزء من استمرارية الحياة وتطوير منافعها، فمن المهم جدا فهم معطيات الحياة وتنمية موردها لكي نستطيع المحافظة على ديمومتها والتفاعل معها بشكل مباشر، شريطة أن يكون ذلك وفق منهج الشريعة الإسلامية حتي تكتمل السعادة الأخلاقية والدينية والمادية؛ في إطار متصل بعبادة الله وطاعته في السراء والضراء.

... إنَّ الفصل بين عبادة الله وطاعته وبين ما يسعى إليه الإنسان من تحقيق منافع مادية ومعنوية تؤدي به إلى التوسع في الكسب وتنمية الأرزاق ليس له أي مبرر، وإنما هو تصوُّر خاطئ يلحق بصاحبه الضرر والغبن الفادح، إذا تمعَّن في حقيقة ما سيؤول إليه مصيره كحالة قارون التي وصفها الله لنا في كتابه العزيز: "إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين".

من هنا، ينبغي على الإنسان أن يضع له برامج وخططا واضحة، يحدد من خلالها الخطوط المهمة التي يكيف بها نفسه من حيث كسب المال والجهود التي بذلها نحو تنميته، في مقابل أنه لم يعطِ هذا المال الحق المشروع من المخارج التي أمر الله بها كالزكاة والصدقة وما شابه ذلك من أمور البر والإحسان، مع إدراكه التام للوضع الذي آل إليه مصير قارون.

الأمر الثاني: عندما يتحقق الفساد في الأرض من قبل العباد وتسير الأمور عكس شريعة الخالق تبارك وتعالى، ويتمادى الناس في طغيانهم وفسادهم، يأتي الأمر من الله جلت قدرته وفقا للحالات المستعصية والخارجة عن جادة الصواب، ولكل حالة صِنف معين من العذاب الذي يتشكل بأمره تعالى، ولنا في الحالات والأقوام المتقدمة عبرة وعظة؛ كحالة قوم سيدنا نوح الذين أهلكهم الله بالطوفان، وحالة قوم سيدنا صالح الذين أهلكهم الله بالرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، وحالة قوم سيدنا لوط الذين حل بهم العذاب نتيجة فسادهم ومخالفتهم للفطرة وتماديهم في المعصية، فصار عاليها سافلها، وأُرسل عليهم صيحةً ومطراً من الحجارة تتبع بعضها بعضاً، وقيل: إنّ كلّ حجر مكتوب عليه اسم الرجل الذي سيقتله، قال الله -تعالى- عن عذابهم: "وَكَذلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ القُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَليمٌ شَديدٌ".

وحالة فرعون وقومه الذين جاء هلاكهم من قبل الله بهذه الصورة والضربات التي ذكرتها الكتب السماوية؛ فلقد ذكر الإنجيل والتوراة هذه الضربات بالترتيب السابق، وجاء ذكرها أيضاً في القرآن الكريم، قال تعالى: "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ" سورة الأعراف الآية 133.

وبعد ذلك، جرت المواجهة الحاسمة والعقاب الأكبر لفرعون وقومه، حيث خرج موسى بقومه بني إسرائيل، وعندما لحقهم فرعون شق الله الماء لموسى عليه السلام ومن تبعه من بني إسرائيل، فعندما عبروا، لحقهم فرعون وقومه وأطبق الله عليهم الماء وأماتهم جميعاً غرقاً في المياه.

وهناك الكثير من الأقوام ممن على شاكلتهم والتي هي من الحالات المشابهة والمتواترة عبر العصور والأزمنة المليئة بالاحداث والعبر حسبما وردت تفاصيلها في القرآن الكريم؛ حيث كانت هذه الأمثلة تعطي الانسان العاقل عظة وعبرة ليكون متوازنا ومتزنا في أخلاقه ومنضبطا في سلوكه وقائما بواجباته، ومع ذلك ظل هذا الإنسان -إلا من رحم ربي- متأرجحا معوجا متماديا متعاليا مرتكبا للجرائم ضالا طريقه فاسدا في الأرض يستخدم عقله وجوارحه في معصية الله مخالفا بذلك شريعته تعالى الذي أنعم علينا بهذا الكون وسخر لنا سائر المخلوقات.

الأمر الثالث: ما نشهده اليوم في عالمنا المعاصر من تغيرات في البيئة وتقلبات في السلوك والأخلاقيات وازدواجية في المعايير وفساد في الأرض، في مقابل أن الله استخلفنا في هذه الأرض وأنعم علينا بالكثير من الماديات والمعنويات لكي نعيش سعداء في ربوع هذه المعمورة، وفضلنا على كثير من مخلوقاته؛ فهذه ظاهرة تعد من المؤشرات الواضحة لمستقبل غامض تكتنفه الكثير من التكهنات والتساؤلات المزعجة التي تلقي بظلالها على حياة الإنسان، وتضعه في خانة مثقلة بالهموم والآلام، ومن جملة الحماقات والمخالفات التي يرتكبها الإنسان المسلم خيانة الأمانة والنصب والاحتيال والتمادي في الطغيان؛ حيث إنَّ الكثير من الناس في هذا الزمن الذي تعثرت فيه المبادئ والقيم تراه في هيئة الإنسان المستقيم المتدين الورع، إلا أنه عندما ترتبط معه بمعاملة مشروعة يظهر لك الوجه الآخر، وتنكشف لك حقيقة تمرده على شريعة الله واستخفافه بحقوق الناس، وأكله أموالهم بدون وجه حق، إضافة إلى تضييق الخناق مع من استأمنه ومنحه الثقة، وأصبح بذلك التصرف مضيعا لدينه وسمعته، مقابل حفنة من المال لا تساوي جناح بعوضة من عذاب ربه.

وها هي جائحة كورونا التي فرضت نفسها وخرجت عن دائرة السيطرة، وتعدت الحدود الدولية دون سابق استئذان، وتقاسمت مهامها وانتشرت بشكل رهيب ومخيف لتشمل كافة انحاء العالم، متخطية بذلك كل الحواجز، ومحطمة كل القيود في رسالة واضحة من أجل تصحيح الأوضاع، وتنبيه هذا الإنسان لخطورة المواقف التي يتخذها في حق نفسه وفي حق خالقه وفي حق بيئته وفي حق مجتمعه، وهي من جنود الله التي كلفها برسالة جلية وبينة تؤكد لنا وجوب مراجعة حساباتنا والعودة إلى شريعة خالقنا والارتقاء بواجبات ديننا، والعمل على نشر الفضيلة فيما بيينا والكف عما يضاعف ذنوبنا ويخرجنا عن جادة الصواب.

ومن خلال هذه الحيثيات، على المجتمعات أن تقوم بثورة توعوية تثقيفية تصحيحية لما تعانيه البشرية من إخفاقات عميقة وضربات موجعة وأزمات متكررة أدت لانعكاسات مؤلمة اخترقت المبادئ وضيعت القيم، وانتكاسات مؤثرة في كافة المسارات المتعلقة بعلاقة الانسان بربه نتيجة ما يشوب هذه الحياة من تداعياتواستخفاف بمبادئ الدين ومعاناة الشعوب من القهر والاستبداد والقمع وسفك الدماء، وما إلى ذلك من أمور تجاوزت حدود الفطرة، وغيَّرت مجرى السلوك الطبيعي الذي تقوم دعائمه على قواعد ثابتة وراسخة ذات بُعد ديني وإنساني لا يقبل المساومة؛ فجمال الحياة واستقرارها يتمثل في تحقيق وتفعيل القيم المثلى وفي مقدمتها طاعة الله والعمل في حدود شريعته وسنة نبيه محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

نسأل الله العافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، وأن يثبتنا على دينه وشريعته ويهدينا إلى سواء السبيل، وأن يرفع عنا مقته وغضبه ويجعلنا من عباده الصالحين إنه ولي كريم.

تعليق عبر الفيس بوك