خالد بن الصافي الحريبي
قصتنا هذا الأسبوع طُرفة من ولاية إزكي بمحافظة الداخلية، تقول القصة إنَّه كان هناك امرأتان تسكن إحداهما قرية سيما، والأخرى قرية مقزّح، وفي أحد الأيام زارت الأولى الثانية فأكرمتها، وعندما عزمت العودة إلى سيما أصرَّت الثانية على أن تصحبها وتوصلها، ولما وصلتا سيما أصرت الأولى أن تصحب الثانية إلى قريتها مقزّح، وظللن هكذا "يترابعن" حتى طلعت عليهن شمس النهار. فغدت "سيما خت مقزّح" مثلا تردِّده الألسن بمعنى أن الأمرين سيّان.
ولأنَّ الشيء بالشيء يُذكر، فإن ما ذكَّرني بهذه الطرفة قصةٌ جديدةٌ متجددةٌ منذ وعد بلفور في 1917 لم تعُد طريفةً على الإطلاق، آنستني الكتابة عن التقنيات والشركات الناشئة والذكاء الاصطناعي. فقد تفتقت قريحة الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس الأمريكي الحالي عمَّا يدل أن مثل الرئيسين جو بايدن ودونالد ترامب كمثل سيما ومقزّح. فعلى الرغم من أنَّ هذه الإدارة التي لم تُكمل مائة يوم فقط أصدرت الأسبوع الماضي أهم تصريح عن سياستها الخارجية نحو قضايا وطننا العربي، ضمن ما يُسمَّى بقضايا الشرق الأوسط. يقول هذا التصريح على لسان وزير الخارجية الأمريكي الحادي والسبعين أنتوني بلينكن: إنَّ فلسطين ليست دولة، ولا يحق لها التقاضي أمام المحكمة الجنائية الدولية(ICC)"، وذلك تعليقاً على قرار فاتو بنسودة المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فتح تحقيق في جرائم حرب بالأراضي الفلسطينية المحتلة. وعلى الرغم من أن دعم إسرائيل من ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية المُسلَّم بها، والتي لا تتغير بتغير الإدارات، إلا أن هذا التوجه، بهذا الأسلوب، وفي هذا الوقت، يُنذرُ بخارطة طريق لم يُعلن عنها، سنشهدها خلال الأربعة أعوام المتبقية من عُمر فترة الرئيس الأمريكي الحالي. فمن سيرسم هذه الخارطة؟ وما هي ملامحها؟ وما هي خياراتنا في التعامل معها؟
"إعادة بناء عالم أفضل" Build Back Better BBB
الشعار الرسمي لخارطة طريق ونظام إدارة الرئيس الأمريكي الحالي هي "إعادة بناء عالمٍ أفضل"، بالإشارة إلى عزمه إصلاح ما أفسده الدهر، وسلفه ترامب، وتداعيات جائحة كوفيد 19. وبشّر بايدن بأن القيم التي سيستند إليها هذا النظام هي: الديمقراطية والعدالة واحترام حقوق الإنسان. وبناء على هذا النظام الجديد المُعلن، فإن الممارسات الواقعية للإدارة الجديدة أكثر كارثية من أي ممارسة سابقة؛ لأنها تأتي في زمن تحققت فيه كُل أهداف الأمن القومي الأمريكي والإسرائيلي في منطقتنا بالذات. ووصلنا لمرحلة يعتبر فيها أي انتقاد لإسرائيل شبهة جريمة عالمية لمعاداة السامية في أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي. لذا؛ ولأنه لا يوجد أساس منطقي للإمعان في إخضاع المنطقة لإسرائيل، فإن نظام السياسة الخارجية الجديد نحو منطقتنا إسرافٌ يُهدد الأمن القومي الأمريكي والإسرائيلي قبل الأمن العالمي؛ لأنه يصرف أنظارنا جميعا عن التحديات الإنسانية الاقتصادية والصحية والاجتماعية المتراكمة، ناهيك عن التحديات المصاحبة لجائحة كوفيد 19. وإن كان العالم عاب على الرئيس الأمريكي السابق تنمُّره على كل من يستطيع ابتزازه، فإن إكمال مسيرته بابتزاز الفلسطينيين ليتخَلوا عن كل حقوقهم كبشر، قبل أن يتفاوضوا، أكثر فداحةً وظلما، ومؤشر على تصدير الإدارة الأمريكية لتحدياتها الداخلية المتمثلة في تحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة الإرهاب المحلي، واستبداله بمواصلة ظلم المستضعفين في المنطقة، رغم ثقة الفلسطينيين لعقود بالدبلوماسية الأمريكية.
بلينكن وموت الدبلوماسية التقليدية
يُعدُّ وزير الخارجية وكبير الدبلوماسيين رأس الحربة في تنفيذ السياسة الخارجية للدولة. وتتميَّز هذه الفترة بفريق سياسة خارجية أمريكية متناغم، يضم وزير الخارجية بلينكن ومسؤوليه وزملاءه السابقين: وليام بيرنز رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وجون كيري المبعوث الخاص للتغير المناخي، ولويد أوستن وزير الدفاع، وجاك سوليفان مستشار الأمن القومي، وليندا توماس جرينفيلد مندوبة أمريكا الدائمة في الأمم المتحدة. وهناك سببان كانا ليُمكنان وزير الخارجية الحالي أنجح من كل سابقيه؛ أولهما أن الرئيس الأمريكي الحالي بايدن أعاد الاعتبار لوزارة الخارجية بعد قيام الرئيس الأمريكي السابق ترامب بتهميش الدبلوماسية التقليدية، واتهامه لوزارة الخارجية بأنها نخبوية وعاجزة وعقيمة؛ مما أدى لاستقالة المئات من الدبلوماسيين المخضرمين.
وثانيا: أولى ترامب ثقة غير مسبوقة في إسناد مهمة إخضاع دول المنطقة لصهره ومستشاره جاريد كوشنر عن طريق "صفقة القرن" التي لم تُنشر تفاصيلها حتى هذه الساعة. واكتشاف أمريكا لإمكانيات سياسة الابتزاز التي مارسها الرئيس السابق بنجاح مع دول منطقتنا؛ مما يوفر عليها بذل أي مجهود دبلوماسي جاد لإشراك دول المنطقة في تقرير مصيرها.
وبينما نشرت عدة أوساط إعلامية مؤثرة في الرأي الإعلامي الأمريكي، مثل صحيفة نيويورك تايمز، تقييما يقول إنَّ وزير الخارجية السابق مايك بومبيو هو أسوأ وزير خارجية في تاريخ أمريكا، إلا أنَّ عجز بلينكن عن تبني أي سياسات أكثر نُصرةً للحق من سياسات سابقة، تجعل منه منافسا حقيقيًّا على اللقب. كما أنَّ من شأن مواقفه السابقة التي أدت لكوارث إنسانية مستعصية أن تطفو على السطح؛ ومنها تأييده للحرب على العراق عام 2003، وتأييده لصفقات الأسلحة ذات الصلة بالحرب في اليمن عام 2015، وتأييده لاحتلال إسرائيل للمزيد من أراضي الفلسطينيين في 2020. وإن من شأن كل ما تقدم أن يُكمل ما بدأه ترامب من دق المسامير في نعش الدبلوماسية التقليدية التي تعجز عن مواكبة تطلع الأجيال الناشئة إلى خطاب وممارسات تأخذ بعين الاعتبار تطلعاتهم لنظام عالمي أكثر إنسانية وذكاء وعدالة.
قول الحق وأجيالنا الناشئة
من الأقوال المأثورة عن سيدنا علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه: "ما جعل قول الحق لي صديقاً"، وفي عالم اليوم ما جعل تمسك البسطاء -ليس في فلسطين فقط بل حول العالم- بحق الفلسطينيين في أن يعاملوا كبشر، بغض النظر عن خلافاتهم، وحقهم في وطن يُطعمهم من جوعٍ ويؤمنهم من خوف لهم صديقاً. وأضعف الإيمان أنَّ وطنًا يتيح لهم الحصول على لقاح خلال الجائحة. إلا أن مدرسة الواقعية السياسية تحورت مع الزمن إلى فيروس انتهازية سياسية تخشى أن تُلبَس تُهمة معاداة السامية، التي أصبحت سيفاً مسلطاً على رقاب كل منتقد لسياسات إسرائيل الظالمة والعنصرية.
وللأمانة.. وكخريج علوم سياسية وموظف سابق في وزارة الخارجية الأمريكية، وهي إحدى المؤسسات الحكومية في العالم، وكزميل تشريعي سابق في الكونجرس الأمريكي، وكمهتم بالشؤون الإنسانية العالمية، فإنَّني لا أرى مجالاً للشك في أن السياسة الخارجية للإدارة الحالية لن تستطيع بناء عالمٍ أفضل؛ لأنَّ إمعان الدولة العميقة التي خلّفها الرئيس السابق ترامب في شق الصف الداخلي الأمريكي كشف عيوب قِوى أمريكا الخشنة والناعمة والحادة أمام حُلفاء أمريكا قبل أعدائِها.
وعلاوة على ذلك، فإنَّ المعرفة والتواصل العالمي الذي يُتيحه التقدم العلمي والتكنولوجي يخلق وعيًا إنسانيًّا وتضامنًا مع حقوق المستضعفين؛ ومنها حقوق الفلسطينيين ليس في وطننا العربي فقط بل حول العالم. وإن كان أثَّر في جيلنا نجاح إسرائيل وحُلفائها في سياسة "فرِّق تسُد" في عزوف الكثيرين عن نُصرة الفلسطينيين فإنَّني أرى الأجيال الناشئة الحالية أكثر عزماً وابتكاراً في مقاومة الظُلم ولو بحملةٍ في مواقع التواصل الاجتماعي.
لذا؛ وعلى الرغم من أن أوطاننا ضحت بالغالي والنفيس في سبيل اتفاقيات السلام ومشتقاتها، إلا أنه آن الأوان لقول كلمة الحق لكل الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن؛ وذلك لأن عالم ما بعد الجائحة لا يُمكن أنْ يتمسك بالممارسات الظالمة العنصرية التي شغلت العالم ما قبل الجائحة.
وإنْ كان هناك من يظن اليوم أنَّ القول الفصل في العالم هو لمن يملك ظاهريًّا حق القوةِ والقطب الواحد، فالقول الفصل هو ما قاله الله عزّ وجل على لِسان مؤمن آل فرعون: "يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" صدق الله العظيم.