الفرحة الغامرة لم تكتمل

د. عبدالله باحجاج

لا يُمكن تصوُّر أو تخيُّل فرحة الآلاف من العسكريين العُمانيين في دول الخليج العربية، سواء الذين أحيلوا للتقاعد منذ 2011، أو الذين لا يزالون في أعمالهم، فرحتهم الغامرة بالمرسوم السلطاني الذي صدر مؤخرا بشأن تطبيق النظام الموحد لمد الحماية التأمينية للعسكريين من مواطني دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية العاملين في غير دولهم، في أي دولة عضو في المجلس، مهما حاولنا، فلن نتمكَّن من تجسيد هذه الفرحة في كلمات؛ لذلك سنترك تخيلها وفق المعطيات التالية؛ ومن ثم تأملوا عقبها:

- عُمانيون أمضوا أكثر من نصف عمرهم، والكثير منهم 40 سنة، يخدمون في قطاعات عسكرية وأمنية متعددة في دول مجلس التعاون الخليجي، ضربوا فيها أصدق الوفاء والالتزام، وتربعوا على قمم الإخلاص في العمل، تحملوا شتى أنواع الغربة ومشاقها وآلامها وضغوطاتها من أجل لقمة العيش.

- في دولة مقر العمل حُرِموا من الترقيات السنوية المستحقة طوال تلكم السنوات، وظلوا على مسميات تعيينهم شرطي أو نقيب.. مثلا.

- عادوا لوطنهم وقد غزا الشيب شعر رأسهم، وأكلت الغربة أجسادهم، وانحنى عمودهم الفقري، وهم حتى الآن بلا معاش تقاعدي من أكثر من عشر سنوات، ويعيلون أسرًا فيها أطفال وشباب في سن الدراسة.

- نظراؤهم من العمانيين العاملون في قطاعات مدنية في دول الخليج العربي يُعترف لهم بمعاشات تقاعدية وفق معيار آخر راتب في الدولة مقر العمل.

- نظراؤهم في دول الخليج العربي يحصلون على معاشات تقاعد فور عودتهم لأوطانهم بناءً على قرار من قادة دول مجلس التعاون الخليجي، ما عدا عسكريينا العمانيين، فلم يُطبَّق القرار في بلادنا رغم تطبيقه على الشق المدني.

- الكثير من عسكريينا الذين لا يزالون يعملون في دول الخليج العربي ينتابهم الخوف من أن يكون مصيرهم بعد التقاعد مثل غيرهم.

تُعطِينا تلكم المعطيات صورة ذهنية وملامح واضحة وشفافة عن معاناة عسكريينا الطويلة في دول الخليج العربي، وتضعنا الآن أمام الفرحة الغامرة بعد أن صدر مؤخرا مرسوم سلطاني سامٍ يمنحهم المعاش التقاعدي، فقد رفع معنوياتهم من القاع إلى القمة، وانهالت عليهم التهاني والتبريكات حتى من الدول التي كانوا يعملون بها.

لكن، هذه الفرحة الغامرة لم تكتمل، فينتابها الآن الخوف من مسألة التطبيق؛ فقد تواصل معنا بعضهم، وأبدوا لنا هذه المشاعر المحبطة من التطبيق؛ فالتطبيق لا يعترف بحقهم القانوني في المعاش التقاعدي كما ينصُّ عليه النظام الموحد لمد الحماية التأمينية للعسكريين من مواطني دول مجلس التعاون الخليجي العاملين في غير دولهم في أي دولة عضو في المجلس، وأسوة بنظرائهم العمانيين في القطاعات المدنية التي كانوا يعملون فيها في الخليج.

أين تكمُن مشكلتهم الآن؟ سندع ما أفادوا به لنا حرفيًّا يعبر عن مشكلتهم:

"تفاجأنا باحتساب المعاش حسب بداية المربوط لراتب الرتبة المناظرة لراتبنا في بلادنا، وليس بناء على آخر راتب كنا نتقاضاه في دولة مقر العمل حسبما نصت عليه رؤية أصحاب الجلالة والسمو قادة دول مجلس التعاون الخليجي".

ويطالبون حرفيا: بـ"أن يتم احتساب المعاش حسب نظام التقاعد المعمول به في بلادهم بناءً على آخر راتب كان يتقاضاه المنتسب في دول مقر العمل، وذلك أسوة بالمدنيين العاملين في دول المجلس الذين شملهم تطبيق القرار منذ سنوات"، وأفادوا كذلك بأن المدنيين العمانيين تم الاعتداد لهم بآخر راتب.

فلماذا لم يعتد بمعيار آخر راتب؟ لمَّا بحثنا في الموضوع، قيل لنا إن مرتباتهم مرتفعة، فهل هي كذلك؟ بحثنا في مستويات رُتبهم وخلفياتها، وجدنا الآتي:

- أن أغلب المتقاعدين العسكريين العمانيين في الخليج العربي هم بين شرطي وشرطي أول، أما العريف والرقيب والرقيب 1، فأعدادهم قليلة جدا، بمعنى أن رتبهم صغيرة، والسبب؟ يرجع إلى حرمانهم في دول مقر العمل الخليجية من ترقياتهم المستحقة، فظل العماني مغلوبًا على أمره لعقود، لم يجد مؤسسة حكومية أو رسمية في داخل الوطن أو خارجه تقف معه في استحقاق حقوقه.

- مرتباتهم ضعيفة وليست مرتفعة على عكس الزعم السابق؛ فالشرطي يحصل في دولة مقر العمل على  7500 درهم مثلا بعد سنوات عمل ما بين 25 و30 سنة دون ترقيات، والرقيب يحصل على 10500 درهم لسنوات عمل من 35 و40 سنة، فأين هذا الارتفاع؟ وحتى لو سايرنا منطق الارتفاع في حجم مثل تلكم المرتبات، فإنَّ حِسبة التقاعد في بلادنا ستتهاوى بتلك المرتبات إلى النصف.

لو طُبِّق معيار آخر راتب، فسيحصلون على معاشات تقاعدية، تقديريا ما بين 500 و600 ريال عماني. أما لو طبق معيار آخر مربوط -كما يتخوفون منه الآن- فمعاشاتهم تقديريا ستكون ما بين 300 و400 ريال عماني وربما أقل؛ فهل بعد مشوارهم الزمني الطويل من معاناة الغربة، وهضم الحقوق، والصبر من أجل لقمة العيش، ينبغي أن تستمر معاناتهم داخل وطنهم؟

وحتى لو اعتددنا بالمعيارين، فما هي قيمة تلكم المعاشات  في عصر الضرائب والرسوم والإتاوات ورفع الدعم وموجة الغلاء المصاحبة لها؟ لا يُمكن الحديث عن المعاش الآمن إذا كانت سقوفه ما دون الآلف ريال، فكيف بمعاشات 200 أو 300 أو 400 ريال...إلخ؟

مطالبهم مشروعهم، وفق التشريعات المعمول بها في بلادنا ودول مجلس التعاون الخليجي التي أقرها قادة دول مجلس التعاون الخليجي، فلماذا يتم التعامل معهم من أول مربوط وليس آخر مربوط؟ هذا سيكون إسقاطا لسنوات عمرهم وشقاهم، وهذا سيكون مساسا بحقوق أصيلة لهم، وهذا سيكون تكريسا لمعاناتهم في دول الغربة.

وقد كانتْ لنا مُحاولات لتحريك هذا الملف مع أعضاء بارزين في مجلس الشورى؛ من بينهم قانونيون، لكننا فقدنا الأمل في مساعيهم رغم أنهم أبدوا استعدادهم وحماسهم، لكن فعلهم لم يكن في مستوى حماسهم؛ فغلب عليه البطء جدا، حتى وصل بنا الانتظار إلى عدم الرد حتى على رسائلنا الشخصية التي تعشَّمنا فيها الإيجابية والفاعلية.

لذلك؛ قرَّرنا اللجوء إلى منبرنا الصحفي، كرِهَان مُستدام لرفع مآلات هذه القضية إلى صُنَّاع القرار بعد أن كان لنا، وعبر هذا المنبر، زمام المبادرة في فتح قضية عسكريينا في الخليج العربي، والتفاعل المتواصل معها في عدة مقالات حتى بُشِّرنا بالمرسوم السامي سالف الذكر.

والآن.. نفتحها مجددا، لحمولتها الحقوقية الثقيلة، وللمفارقات التمييزية التي تشطُر الحق رغم وحدة الإنسان والقانون الضامن له، ورحمة بشيبتنا وشيوخنا بعد أن لمسنا الخوف فيهم من التطبيق؛ فكفى معاناة غربتهم الطويلة، كفى عشر سنوات انتظارًا لمعاش التقاعد، وآن الأوان لأن يتمتعوا بكامل حقوقهم وبأثر رجعي بعد صدور المرسوم السلطاني الذي يقر لهم الحق في المعاش التقاعدي، ومن حقهم من آخر راتب، وليس من أول مربوط للوظيفة، وهذا حق لا يسقُط ولا يتقادم ولا يتجزَّأ يا وطني.