الوجه الآخر للأمومة

أم كلثوم الفارسية

كُنت وما زلت أؤمن وبشدة أنَّ الأمهات أعظم مخلوقات هذا الكوكب، ليس لأنهن يمنحننا للحياة حياة، بل لأنهن يقتطعن من سيل أيامهن جزءا يكن فيه عالقات في حفرة بعيدات كل البعد عن حياتهن، إنهن يوقفن شريط أحلامهن وأعمالهن وأشيائهن الحبيبات إليهن، يوقفن عالمهن ليصبح الكل في واحد، وهو ذاك الكائن المنشطر من روحها النامية في أحشائها، رغم أن هذا القرار يحمل في تفاصيله آلام ما قبل وبعد الولادة وما يلازمه من ندرة النوم وإهمال النفس واكتئاب قد يطول لفترة غير معلومة، إلا أنها تتخذه مدفوعة بتوقعات أو برمجيات مجتمعية، أو ربما تكون غريزة الأمومة هي السبب، ومن اللافت للنظر أن الكتابات الأدبية لم تتناول موضوع رحلة الأمومة من ناحية تأثيرها المباشر على حياة الأم؛ فلا أحد يتحدث عن اكتئاب بعد الولادة، وكيف أن الأمهات يعانين فعليا من الحزن والكآبة، وينصدمن بواقع لم يكن يتخيلنه في يوم من الأيام، هناك مشكلة حقيقية في رسم ملامح الأمومة بإطار واحد؛ فالحقيقة أنه ليس ثمة تجربة أمومة تشبه أخرى لا في الخطوط العريضة، ولا حتى في التفاصيل الصغيرة.

إنَّ ما نعايشه نحن الأمهات في هذه الرحلة لا يتطابق ألبتة مع ما تظهره شاشاتنا ولا يشبه كثيرا قراءاتنا، لا أحد يحدثنا عن كمية الألم النفسي الذي تشعر به الأمهات وهن يقاومن رغبتهن في ارتداء فستانهن المفضل لمناسبة مهمة بالنسبة لها فقط؛ لأن عليها أن تكون جاهزة لإرضاع طفلها بسرعة وقت ما يريد، أو أن وزنها وشكل جسمها لم يعد مثل السابق، وأن عليها العودة للرشاقة في أسرع وقت ممكن!! متناسين أن الأمر مرهون بنمو وتطور الطفل فعندما يصبح الطفل أكثر استقلالية يمكنها حينها أن تركز قليلا على نفسها!

تمر على الأم أطياف مختلفة من الحالات العاطفية؛ فهي تتأرجح بين ما هي عليه فعلا وبين ما يجب أن تكون عليه؛ فالأمهات يشعرن بالذنب في أحيان كثيرة؛ لأنهن لا يشعرن بالحب تجاه هذا المولود الجديد، بينما برمجتهن المسبقة من قبل التليفزيون أو القراءات أو أحاديث الأمهات وقصص الجدات تقول عكس ذلك، هي محملة بتوقعات تقول لها إنها مع أول التقاء بين عينيها وعيني طفلها تتدفق المشاعر والعواطف الجياشة حتى تكاد لا تتمالك نفسها، وإذا لم يحدث هذا معها تبدأ تتهم نفسها بأنها أم غير جيدة أو أنها لا تستحق أن تكون أمًّا!!

والأمر الأصعب من ذلك أن المرأة لا يمكنها التعبير عن كل هذه المعاناة؛ لأن كل النساء اللائي يحطن بها يظهرن أن حياتهن رائعة وأنهن يقمن بعمل رائع مع أسرهن وأطفالهن؛ لذلك تعبير هذه المسكينة عن معاناتها يعني أنها ليست جديرة بالأمومة أو أنها أم فاشلة!!! لا أحد يخبر هذه الأم بأن هذه المشاعر تأتي مع الوقت، ولا بأس بأي شعور يتملكها بعد الإنجاب.

لا أحد يخبرنا عن تحكم الهرمونات بتصرفات وردات أفعال الأمهات ومشاعرهن لفترة ليست بالقصيرة، وكيف أن هذه الهرمونات حتى تعود لوضعها الطبيعي، تحتاج أن تجعلنا نساء غير طبيعيات هكذا خلقنا الله ولله في خلقه شؤون!!

ولكن أكثر ما يظلم المرأة في هذه الرحلة هي الضغوطات التي تمارسها هي ذاتها على نفسها من خلال توقعات وتخيلات وصور ذهنية رسمتها لنفسها حين تصبح أمًّا معتمدة  في ذلك على مشاهد من مسلسلات او أفلام لا تمت الواقع بصلة.

وأخيرا... شعور الأم بأنها فقدت ذاتها وأنها تحتاج لوقت طويل حتى تعيد بناء نمط حياتها من جديد وتعود لتوازنها السابق، كل هذه الأفكار قد لا تجعل رحلة الأمومة كما صورتها لنا الأدبيات ووسائل الإعلام.. كل هذه الأفكار قد تجعل للأمومة وجها آخر مثقلا بالمعاناة والألم والأمل والحب.. تجعل من الأم مخلوقا عظيما يهب للحياة حياة بعد أن تقتطع جزءا من عمرها لهذا الكائن الصغير.

وأخيرا... عزيزتي الأم لا بأس ببعض الألم الذي يضَعك في عُمق التجربة الإنسانية؛ فهذه فرصة لم تعطَ لأحد سواك.

تعليق عبر الفيس بوك