خالد بن الصافي الحريبي
الذّر، وهي صِغار النمل، من أعجب مخلوقات الله حيث تدهشنا صغاراً وتُعلِمنا كباراً، بحجمها المتواضع وانضباطها وصبرها الذي ليس له حدود وتركيزها على طموحها والقيام بكل ما يتطلبه إطعام أنفسها من جوع وتأمين واديها ومساكنها من الخوف أن يحطِمها من يشعُر أو ما لا يشعُر.
ويُقول إخوتنا أهل البلد السعيد بلد الأصل والفصل والروح والفن- اليمن "قَع ذره تاكل سُكر" أي عِش خفيفاً لطيفاً ساعياً مُجتهداً تُرزق كل ما هو حلوٌ وجميل. ولا أدّل على صِحة هذا المثل من العيش الكريم والتأثير الطيب للملايين من أبناء الجاليات ذات الأصول اليمنية في جنوب شرق آسيا والخليج وأفريقيا وأمريكا. وآخر مثال تعيين أول قاضٍ فدرالي أمريكي من أصل يمني، رشاد حوتر، الأسبوع الماضي في محكمة ولاية نورث كارولينا الأمريكية وهي إحدى الولايات المفصلية التي تلعب دوراً وسطياً مؤخراً ومؤثراً في ترجيح كفة المرشحين في انتخابات الرئاسة والكونجرس.
وقياساً على هذا المثل فإنَّ حاضرنا ومستقبلنا يعتمد على تفكرنا في كيف أن سلوك البشر مهما تطور فإنِّه لا يختلف كثيراً عن بقية المخلوقات فأسلوب الأمم يختلف في سعيها واجتهادها في طلب القوة والرزق. فمنها من هم كالثعالب تُقنع بالقوة الناعمة ومنها كالوحوش من يلجأ للقوة الخشنة وأما البعض الآخر كالذئاب يستغل ما يسمى بالقوة الحادة. فما هي هذه القوة وكيف تطورت وستؤثر علينا؟
القوة الخشنة Hard Power
إنَّ استخدام الإمكانيات والموارد للوصول للغاية المرجوة مسلك قديمٌ قِدم وجودنا كبشر، ويتطور مع ظهور قِوى عالمية جديدة. لذا فقبل حوالي 30 عاما حلل عالم سياسي أمريكي اسمه جوزيف ناي تعريف القوة بأنها تحقيق الغالب لغلبته باستخدام الإمكانيات والموارد للوصول للغاية المرجوة. ونظّر بأنَّ القوة الخشنة، أي الاعتماد الإجبار والتلاعب بالمغلوب بقوة السلاح والمال والعصا أكثر من الجزرة أسلوب غير مُستدام لأنها تُغفل ما تتوق إليه النفس البشرية من الحرية والتدبر والتفكر والتأمل ولو بعد حين. وكان هذه جلياً في تآكل وانهيار الاتحاد السوفيتي من الداخل بعد 70 عاماً من الحروب الساخنة والباردة. ولا زلنا نشهد اليوم أمثلة مؤسفة على استخدام القوة الخشنة العسكرية والاقتصادية في الممارسات العنصرية، بحسب التوصيف الرسمي والعلني المُتفق عليه في قرارات الأمم المتحدة، ضد الأقليات في الصين وميانمار وفي تعامل إسرائيل مع العرب والمسلمين واستخدام روسيا وإيران وأطراف حرب المرتزقة لتحطيم روح المدنيين وتقسيم سوريا واليمن لمصالحها الفئوية الضيقة، ناهيك عن أمثلة التدخل الأمريكي في عددٍ من الحروب. وغاية الغالب المرجوة من القوة الخشنة من بوارج وحاملات طائرات وعقوبات اقتصادية هي إخضاع المغلوب وتحطيم روحه بالقوة لضمان امتثاله لما يُملى عليه.
القوة الناعمة Soft Power
أما القوة الناعمة التي راجت منذ التسعينات فترتكز إلى تسخير الإمكانيات والموارد الثقافية لجذب وإقناع المغلوب باتبّاع الغالب طواعيةً وصولاً إلى تحقيق غاياته. وتتنوع الأمثلة التي تذكر هنا بين بروز تركيا بهويتها وسياحتها ومسلسلاتها وشركاتها وتقنيتها العسكرية، وخطة مارشال الأمريكية لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ومبادرة الحزام والطريق الصينية لضمان الوصول للأسواق والمواد الخام بالذات في الوطن العربي وأفريقيا، بالإضافة إلى تفوق الجامعات الأمريكية وكفاءات المجتمع المدني وهوليوود وما يسمى بأكل "الفاست فوود". ولأنه سبحانه وتعالى مُغير الأحوال، فمنذ حرب العراق بدأت القوة الناعمة الأمريكية في التآكل، وسرّع في هذا التآكل ميل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى اللعب بأوراق القوة الخشنة وقد أدى هذا إلى تطور نوع جديد من القوة.
القوة الحادة Sharp Power
مع تقدم التقنيات الناشئة والاقتصاد المبني على البيانات والانتباه ومواقع التواصل الاجتماعي لجأت بعض الدول مثل إسرائيل وروسيا والصين وإيران وبريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي إلى قلب سحر القوة الناعمة الأمريكية على الساحر، وحققت مكاسب سياسية واقتصادية عبر عمليات عِدائية معلوماتية تستند إلى نشر أخبار مزيفة Fake News كانتشار النَّار في هشيم عقلية المجتمعات المستهدفة. ولا زلنا نعاني اليوم من استغلال التقنية في نشر الأخبار الزائفة سواء ذات الصلة بجائحة كوفيد-19 أو العُملات الافتراضية أو الشؤون الدولية.
نحن ومستقبل القوة
عود على بدء؛ فإنَّ مجتمعاتنا ولا أقول الإسلامية أو العربية فقط بل كل المجتمعات المُطمئِنة تحتاج قوة متواضعة منضبطة رابعة لا صلبةً فتُكسر ولا لينةً فتُعصر ولا حادةً فتُنهر؛ بل ذكية وخفيفة ولطيفة ومجتهدة كالذرة التي تأكل السكر، وحلوة حلاوة عسل الدوعن الحضرمي اليمني، كما ورد في مقال للكاتب حماد بن حامد السالمي من السعودية الشقيقة. وذلك لأنَّ ثلاثة منعتنا من ثلاث: منعتنا غَلبة الاستعمار من تطوير قوة خشنة، فلم يبرز فينا قائد عسكري أو عالم اقتصادي عالمي يُشار إليه بالبنان منذ حوالي قرن. ومنعنا ما تبقى فينا من جاهلية من تطوير هويات وطنية جاذبة تُقنع القريب قبل البعيد بالاستثمار فينا أو بأننا خير أمة أخرجت للناس، فلم نُهد للبشرية مفكرين أو فنانين عالميين فخورين بهويتهم منذ حوالي نصف قرن. ومنعنا ترددنا في تبني العلم النافع تطوير قوة حادة فلا يوجد ضمن شركات الاقتصاد الرقمي العالمية المؤثرة في الرأي العام أي رواد أو شركات تعتبر قدوات عالمية. لذا فإن الاعتراف بوجود تحدٍ مشترك أول خطوة في خارطة طريق تجاوزه، وعلينا العمل معاً في اتحاد مع عواصم وحواضر كل المجتمعات المُطمئنة والتي سئمت من كونها مغلوبة لقوى خشنةٍ أو حادةٍ أو حتى ناعمة. وحريٌ بنا أن نأخذ العبرة من الذر والتعاون بتواضعِ الواثق وتركيز الفطن الحاذق، المُؤمن بجمال غاياته النهائية من عيش كريم، وإلا ستحطِمُنا قِوى العالم وجنودها وهم يشعرون.
وأدعو الله عزَّ وجلَّ أن يُطعمنا من جوعٍ ويُؤمننا من خوف ويوزِعنا أن نشكر نعمته وأن نعمل صالحاً يرضاه ويُدخلنا في عِباده الصالحين.