مرئيات للحل الآمن لقضية الباحثين

د. عبدالله باحجاج

بعد أنْ اتَّضحت خطة التوظيف لوزارة العمل، وانكشفتْ خارطة تطبيقاتها، يُمكن القول بأنَّها ورغم ما فيها من إيجابيات، إلا أنَّ الطموح الوطني يذهب إلى ما هو أكبر لقضية جيل المستقبل؛ وذلك لأنها جزءٌ من منطلقات المستقبل الجديد للبلاد؛ فالمتأمل فيها -خطة التوظيف- سيلاحظ عدم توافقها مع رؤية "عُمان 2040"، وبالذات: محور الإنسان والمجتمع، ويبدو أنَّ أيَّ جهة حكومية لم تقم بمدى ملاءمة خطة التوظيف مع الرؤية المستقبلية، والشيء نفسه حدث مع خطة التوازن المالية؛ فخطة التوظيف، ينبغي أنْ تتعامل مع الطاقات البشرية المحلية من منظور تهيئتها لتطلعات الرؤية الواعدة، وللنهضة العلمية لها، ومع صناعة جاذبية الاستثمار في البلاد، وكلنا نعلم مدى علاقة هذه المسارات مع بعضها البعض، وهذا نجده غائبا في الخطتين.

نقدِّم هنا رؤيتنا للحل من خلال مُقدمة وأربعة اتجاهات وملاحظات سريعة، وسنختصر سبع عشرة صفحة للرؤية في ست فقط:

المقدمة:

لن يكون حل قضية الباحثين عن عمل في بلادنا من مسؤولية قطاع واحد أو وزارة دون غيرها، أو عن طريق التوطين فقط -رغم أهميته- فالشراكة متعددة، وتحتاج لمهندس يديرها في الميدان.. فهي:

- قضية دولة "فكرا وتخطيطا وتنفيذا"، وفق شراكة مؤسساتية حكومية ومستقلة واجتماعية.

- هي قضية اقتصاد، تكون فيه قضية الباحثين مستوعبة في إطار نموه السنوي؛ وبالتالي فهى من مهمة وزارة الاقتصاد الوطني.

- هي قضية البحث عن فرص عمل عاجلة، وهى مُهمَّة وزارة العمل وغرفة تجارة وصناعة عمان والاتحاد العام لعمال السلطنة.

- هي قضية تهيئة للذهنيات لمستقبل الوظائف في عالم يتطور بصورة مذهلة، وهى مهمة وزاراتي التربية والتعليم والتعليم العالي.

- هي قضية جذب الاستثمارات للبلاد؛ وبالتالي فهى من بين المهام الجديدة لوزارة الخارجية.

- هي مهمة مجلس الشورى لدواعي الشراكة المجتمعية والرقابة المستقلة على التطبيق.

ومن هذا التعدد، يتم تشكيل خلية عمل واحدة تضبط مسارات التوظيف، وتجعلهما ضمن مراحل تنفيذية أصيلة لـ"رؤية 2040"، مع حتمية وجود مهندس تقع عليه مسؤولية إدارة وضمانة النتائج.

الملاحظات نختصرُها فيما يلي:

* عدم الترويج للمهن المتدنية كالنادل والقهوجي والسائق...إلخ ليس تقليلا منها؛ فهي مهن شريفة، وإنما هي خارج استهدافات "رؤية 2040" في محور الإنسان والمجتمع؛ في ظل تعداد سكاني لم يصل لثلاثة ملايين نسمة، وجعلها لمن يطلبها لذاتها لظروفه الخاصة.

* تشكيل صندوق لإعادة تنمية الموارد البشرية من أموال المسؤولية الاجتماعية للشركات الحكومية والخاصة (وهذا مقترح سبق أن طرحناه) لملفات إعادة تأهيل وتعليم الطاقات البشرية الباحثة عن عمل.

* مُحاسبة كل إعلان يقلل من القيمة العلمية للمؤهلات؛ كالإعلان عن حاجة مقهى لدرجة البكالوريس تخصص كيمياء براتب 325 ريالا.

- الاتجاه الأول:

هذا الاتجاه يسلم بخيار التوطين المطبَّق حاليا، مع الأخذ بعين الاعتبار ملاحظة المهن المتدنية سالفة الذكر، وتصويبه الآن ليكون عبر تشكيل وفد من مختلف الشركاء: وزارات الاقتصاد والعمل والتجارة والصناعة وترويج الاستثمار، إلى جانب الجهات المسؤولة عن شؤون البلديات، ومجلس الشورى وغرفة تجارة وصناعة عُمان، والاتحاد العام لعمال السلطنة (لتعظيم الحوار الاجتماعي)، والقيام بمسح عن الوظائف الآمنة في القطاع الخاص، وعقد التفاهمات والاتفاقيات مع الشركات الكبرى، مع تقديم امتيازات وحوافز لها من أجل تشجيعها على التوطين، وتوفير فرص عمل جديدة عن طريق إعادة اكتساب مهارات ومهن جديدة للشباب.

ولتكن بدايتها من المناطق الاقتصادية والتجارية والصناعية والحرة والموانئ والنفطية.. ولو توجَّهت هذه اللجنة المقترحة إلى هذه المناطق، وفتحت الحوارات مع الشركات بمنطق التلويح بالمصالح والمنافع، لاخترقت الجمود والغموض السائدين، ومن ثمَّ القيام بعملية توطين ممنهجة وحقيقية، وليس على مهن متدنية وغير مستقرة، وإدخال أكبر عدد من المواطنين إلى سوق العمل بعد إعادة تأهليهم، ومن ثم رعايتهم وإرشادهم للديمومة.

وينبغِي أنْ يكون من صلاحية هذه اللجنة دراسة العائد الاقتصادي والاجتماعي والمالي لمثل هذه المشاريع.. وليس الاستثماري فقط، ومن ثمَّ تقديم التوصيات العاجلة بإعادة النظر في الاتفاقيات فيها من منظور مجموع المصالح كلها، وهى: الاقتصادية، والمالية، والاستثمارية، وحجم فرص العمل فيها.

- الاتجاه الثاني:

فتح حوارات عميقة وجادة مع الأشقاء في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وبناء ثقة جديدة مع البعض، وتعزيز الثقة القائمة مع الآخرين، يكون من شأنها إعادة إحياء مشاريع التكامل الاقتصادي من آخر التجارب السياسية والاقتصادية التي شهدتها الدول الست؛ فخلال الأربع سنوات الأخيرة، حَدَثتْ تطوُّرات تفتح الطرق لانطلاقة جديدة بثقة متجددة، خاصة بعدما اتَّضحتْ أولوية الاقتصاد بنفس الأولوية الأمنية.

ونلمَس من الحراك الدبلوماسي العماني باتجاه قطر والسعودية والإمارات- وبالأمس مع الكويت على مستوى وزراء الخارجية- أنَّ الوعي السياسي يتلمس أهمية هذا الاتجاه الإقليمي وتقاطعه مع تأسيس نهضتنا المتجددة، ورغم أننا لن نستبعد مناقشة أي ملفات خليجية-خليجية، وخليجية-إقليمية وعالمية، إلا أنَّ رؤيتنا الاستشرافية تذهب إلى القول إنَّ مسقط تقود الآن عملية بناء ثقة جديدة من رؤى ومفاهيم حديثة، وما إعلان السلطنة أمس تضامنها مع الرياض بعد صدور التقرير الأمريكي حول مقتل خاشقجي، والإشادة بالقضاء السعودي، إلا تطور يدعم رؤيتنا سالفة الذكر.

لأول مرة.. يتم ربط الدبلوماسية العُمانية بجذب الاستثمارات الأجنبية، وهذا دور غير مسبوق للسفراء العمانيين، وقد أصبح ملموسا عبر وسائل الإعلام الخليجية، مثالنا النموذجي هنا سعادة السفير العماني في السعودية، وهنا نلمَس براغماتية عمانية جديدة لدبلوماسيتها الخليجية؛ فكيف يمكن الاستفادة منها لحل قضية الباحثين عن عمل؟

- الاتجاه الثالث:

اختيار مشاريع جديدة ومحدَّدة ذات قيمة إنتاجية عالية، تُدر الأموال لخزينة الدولة، وتولد وظائف كثيرة في مناطق ذات ثقل ديموغرافي وجغرافي، والعمل على إنجازها في مدى زمني قصير- سنة مثلا- بشراكة متبادلة مع شركاء -أفرادا أو دولا- ذات ثقة عالية، ويكون سوق منتوجاتها مضمون على الأقل في دول الشراكة والأسواق الخليجية والمجاورة، كالأمن الغذائي مثلا.. استفادة من تجربة كورونا ومن موجة غلاء معظم المواد الغذائية الآن.

وهذا الاتجاه يُفترض التفكير فيه بُعَيْد التشكيل الوزاري الجديد، عبر تشكيل لجنة رفيعة ومتخصصة تُمثل فيها عقول وطنية متحررة من تبعات اللوبيات القديمة والجديدة، وتقوم في الوقت نفسه بالسهر على تنفيذها مع الجهات المختصة، من أموالنا أولا، وبالشراكة مع الأشقاء في الخليج ثانيا، مع إشراك الأشقاء والأصدقاء الآخرين ذوي الثقة ثالثا. وهذا لم يحدث؛ فالفكر الوزاري الجديد غرق في التقليدية والنمطية، ولجأ إلى الصندوق لاستخراج أفكار الجيل الوزاري السابق منه، والتي فشلت مع قضية الباحثين عن عمل، كما يتم تبنِّي أفكار خارجية كالتوطين، ويتمُّ تطبيقه على كل المهن والوظائف، صغيرها وكبيرها.

مثلًا.. لو كان هذا الفكر بآلياته المقترحة حاضرا؛ فلرُبما يكون تجسيده الآن في الحديث عن استثمارات تركية مرتقبة الدقم؛ فالاستثمار التركي ذو ثقة عالية، والتزاماته الاجتماعية بالبيئات الاستثمارية قائمة على تبادل المنافع والمصالح، وعلينا فتح ملفات المشاريع الاقتصادية التي تمت إقامتها في الدقم وكذلك الموانئ والتركز عليها في التوطين.

ونأمل الآن نجاح الدبلوماسية العمانية في جذب الاستثمارات الخليجية والأجنبية، ونتوقع لها النجاح، لكن الأهم هنا التفكير في نوعية المشاريع الاقتصادية المشتركة التي يتوفر فيها العائد الكبير لخزينة الدولة وكذلك فرص العمل.

- الاتجاه الرابع:

إجراء قياس الميول المهنية للطلاب والباحثين عن عمل، وتوعيتهم بفرص العمل المتاحة، وتحديد المسار التعليمي والمهني المناسب في ضوء الثورة الصناعية والتقنية التي من خلالها ستختفي مهن، وستحدث مهن جديدة، وتوفير معلومات عن مستقبل سوق العمل، ونقترح تشكيل لجنة من مرشدين توجيهيين عن بُعد للباحثين عن عمل في كل محافظة من محافظات البلاد، يتمُّ توجيه كل باحث لما ينبغي القيام به وفق ميوله المهنية ورغباته الراهنة، وعندها سيظهر من يريد المهن المتدنية أو الدخول في عملية إعادة تأهيل ذاته مهنيا، وفق حاجة سوق العمل، أو تغيير الميول المهنية للطلاب...إلخ.

الأهم هنا.. إعمال الفكر في مرحلة غير تقليدية؛ وبالتالي تحتُّم إيجاد رؤى وحلول في مستواها؛ فمثلا: جيبوتي كنموذج للفكر الذي ينفتح على مُعطياته الداخلية لحل المشاكل الداخلية؛ فأكثر من ثلث دخلها يأتي من القواعد العسكرية على أراضيها، ولم تلجأ إلى ذلك إلا لقلة مواردها، وجعل القواعد العسكرية اقتصادًا قائمًا بذاته لحل مشاكلها المالية.