عودة العِجل الذهبي

 

خالد بن الصافي الحريبي

 

في العام 2029 تُقرر الفتاة "سكاي نت" بعد تحليل عميق ومطول أنَّه لأنَّ الإنسان يُفسد في الأرض ويسفك الدماء فإنَّ الجنس البشري لا يستحق العيش، فتُرسل جيشاً من الروبوتات الذكية والقاتلة لسحق ما تبقى من مقاومة الجنس البشري.

ولأنَّ بعض الخيال أحياناً يتحول لواقع، تذكرت مؤخراً هذه التوقعات الواردة في قصة "ترمينيتور" والتي تُشكل بداية إحدى أهم قصص الخيال العلمي الشيقة التي أثرت في جيل الثمانينات، والتي حولها لفيلم المخرج المُبدع جيمس كامرون، بطله الممثل والسياسي الأمريكي من أصل نمساوي آرنولد شوارزنيجر، بطل كمال الأجسام، الذي حقق له الفيلم نجاحًا باهرا أوصله ليكون حاكماً لولاية كاليفورنيا؛ أهم وأثرى الولايات الأمريكية. وعلى الرغم من أن القصة تعود بالمشاهد للعام 1984، إلا أنَّ فحواها تُنبه للمخاطر الأخلاقية ذات الصلة بشبكات الذكاء الاصطناعي التي تتفوق على الإنسان الذي ابتكرها، كما حصل مع شخصية الفتاة "سكاي نت" الافتراضية" والتي هي في الأصل شبكة ذكاء اصطناعي.  وفي الأسبوع الماضي، تجدد الجدل حول الِعلم والأخلاقيات بسبب تعيين مُفاجئ لرئيس تنفيذي جديد لأكبر شركة عالمية عابرة للقارات كان عضواً في لجنة غير معروفة قدمت تقريراً كان من المفترض أن يكون عادياً.  فمن هو هذا الرئيس التنفيذي الجديد وما هي هذه اللجنة وما علاقتها بالعِجل الذهبي؟

إنساي

لولا حادثة صغيرة لما عرف الكثيرون عن لجنة إنساي، فقبل عامين لاحظت وسائل إعلام أمريكية اعتصاماً احتجاجياً لبعض صغار موظفي شركة جوجل. وبعد تقارير للصحافة الاستقصائية تبين أنَّ سبب احتجاجهم هو انخراط الشركة ورئيسها في "لجنة الأمن القومي للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة الأمريكية (NSCAI.GOV)" التي تُشكل بقرار من رئيس الولايات المتحدة ويرفع أعضاؤها أو مفوضوها تقريرهم للكونجرس والرئيس مُباشرة. ويتضمن تقريرها خطة عمل من حوالي 16 توصية وموازنة تقدر بـ32 مليار دولار أمريكي؛ تضمن تفوق القدرات التنافسية في الذكاء الاصطناعي لدى وزارة الدفاع ووكالات الاستخبارات الأمريكية. وأهم توصية تستحق الثناء هي تركيز التقرير على ربط كل جزئية في الخطة ببناء وتطوير كفاءات ذكاء اصطناعي وطنية. بينما أكثر التوصيات إثارة للجدل هي التوسع في خطة عمل استخدام الروبوتات الذكية القاتلة المزودة بقدرات تعلم الآلة، وصولاً إلى اتخاذ هذه الروبوتات قرارات مع وجود حد أدنى مما يسمى بسلطة التقدير البشرية أو الإنسانية Human Judgement.

وقد أثارت هذه الخُطة حفيظة العديد من العُلماء ومؤسسات المجتمع المدني حول العالم لتداعياتها المُقلقة من توسعٍ في الإفساد في الأرض وسفك الدماء. وقد أدت هذه الاعتراضات إلى فتح لجنة إنساي تقاريرها لعامة الشعب لإبداء الملاحظات ولكنها لم تمنع تبني خطة العمل. بل إنَّ أحد مفوضي هذه اللجنة وأشرس المؤيدين للروبوتات الذكية القاتلة والرئيس السابق لخدمات الحوسبة السحابية في شركة آمازون آندرو جاسي تعين مؤخرًا رئيساً تنفيذياً لكل شركة آمازون العملاقة، وهذا التعيين بلا شك مؤشر إلى أن سيناريو الخيال العِلمي والترمينيتور لم يعد مستبعداً.

العِجل الذهبي وأهمية القيادة الأخلاقية

من أحسن قصص القرآن الكريم قصة سيدنا موسى عليه السلام مع بني إسرائيل في سورة طه، بعد تيههم لأربعين عاماً؛ إذ إنها تدعونا للتفكر في حال القوم الذين حباهم الله بالأمن والثروة والذكاء الإنساني اللاأخلاقي؛ إذ إنهم "استعاروا" ذهب وحلي جيرانهم قبل خروجهم من مصر. وتقص علينا كيف أنهم عِوضاً عن الاستفادة من ذكائهم وثرواتهم في الخير، اتبعوا أحد عباقرتهم اللاأخلاقيين واسمه السامري، الذي صنع لهم من الذهب والحلي عِجلا ذهبيًا ليعبدوه؛ لعله يذكرهم بآبيس العِجل أحد المخلوقات المقدسة في حضارة مصر القديمة. والمُلفت في القصة أن لِعجل السامري الذهبي خوار بسبب استخدامه التقني لقبضة من أثر الرسول. قال جلَّ وعلا في سورة طه: "قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ في الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَىٰ إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا".

على الرغم من مرور حوالي 4000 عام على قصة سيدنا موسى عليه السلام مع بني إسرائيل والسامري وعِبادتهم للعِجل الذهبي، إلا أننا كمُجتمع لا نفتأ نُفتن بالتقدم التقني الذي يَفتقد البوصلة والقيادة الأخلاقية نحو العلم النافع. وذلك لأنَّ أي التقنيات المتقدمة دون بُعدٍ أخلاقي كعِجل بني إسرائيل وإن كانت تلمع ذهباً. ولأُمتنا هنا عِبرة في القرون التي خلت وأبصرت فيها بما لم نُبصر به الشركات "الشرقية" العملاقة العابرة للقارات البرتغالية والهولندية والبريطانية واستغلت تجارة الخيرات الطبيعية من بشر وتوابل وموارد طاقة في السيطرة على مقدرات بقية العالم ولا تزال.

اليوم، يكاد تاريخنا يُعيد نفسه حيث نظل عاكفين تُغرينا وتفتننا الشركات التقنية العالمية العابرة في شركة للقارات من علي بابا وهواوي وآمازون وجوجل وفيسبوك ونتفليكس ومايكروسوفت وأخواتها، التي بالكاد تنقل لنا معارفها وعلمها النافع؛ بل ويتضح لنا مع مرور الأيام تسببها في اختراقات وتسريبات وحتى حروب إلكترونية، ضحيتها من لا يستثمر في كفاءاته ومن لا يدرأ عن نفسه ومجتمعه مخاطر عباقرة الشر مثل "سكاي نت" والسامري. لذا فإنِّه من المؤمل أن ننتأمل في قصص الأولين ونولي جُل اهتمامنا إلى أن تكون رسالتنا السلام الرقمي وإعلاء شأن البوصلة والقيادة الأخلاقية للعلم النافع. وترجمة هذه النية إلى برامج تطوير كفاءات الذكاء الاصطناعي وتشكيل فرقٍ دائمة لأخلاقيات العِلم؛ من العُلماء والمختصين من تخصصات مختلفة لتوجيه مشاريع الذكاء الاصطناعي نحو نفع البشرية ولتجنيبنا مصير من انبهروا بالعِجل الذهبي والعياذ بالله دون تفكرٍ وتأملٍ وتدبر.